فاطمة في الصّف الثاني الثانوي أرادت التفوق في مادة اللغة العربية فلجأتْ لي بحكم أنني معلمة لغة عربية.
عندما بدأت في تدريس فاطمة لاحظت أنّها تريد الاستزادة من قواعد اللغة العربية ولم تقتصر على منهجها المدرسي.
مرّت الأيام وشعرتُ بأنني أُعطي فاطمة دروسًا نحويّة تفوق مستواها المدرسي، واحترامًا لعقلها الكبير كنتُ أخاطبها بعقل يختلف عن عقول بقيّة زميلاتها اللاتي في مستواها الدراسي.
بدت فاطمة أكبر بكثير من سنوات عمرها الزهري لذلك كان الجميع يحترم عقل فاطمة فيخاطبها بمستواها الفكريّ الراشد.
وهكذا يمضي ركبُ الحياةِ بمختلف طبقات الإنسان العقليّة لتقف محترمًا العقول لا الأجساد وفي مختلف الأزمنة الغابرة أو الحاضرة.
لا يمكن أن تُجري الحوار ذاته بمفرداته، ومصطلحاته مع طفل صغير ورجل ناضج في آن واحد لذلك كان الطريق الصحيح لبناء تواصل مع الناس مخاطبتهم بما يليق بتفكيرهم من منطلق أننا نتعامل مع ضروب شتّى وعقليات مختلفة من الناس.
فهناك مواقف نواجه فيها أناسًا قد يُجيدون الكذب أو التّصنع في أحاديثهم دون وعي منهم وإدراك أن أوراقهم مكشوفة لدى الجميع، وهناك من يفتقد جاذبية الحديث بمحاوراته الرخيصة، والبعض الآخر يقع في براثن التضليل الإعلامي فيجذبه المُسوق لأنّه قد مارس شيئًا من الخداع أو التضليل على عقله.
والحقيقة كما تقول العرب: (حدث العاقل بما لا يعقل، فإن صدقك فلا عقل له) وفي حياتنا اليومية نصادف الكثير من المُصابين بمرض الكذب أو ما يُسمى (بمتلازمة منخاوزن) وهي متلازمة تجعل المصاب بها يعمد لترديد روايات مثيرة ينسجها خياله ولا أساس لها من الصحة، وتعود تسميتها بذلك للبارون منخاوزن.
عاش منخاوزن في هانوفر والتحق بالجيش ثم حصل على رتبة نقيب في سلاح الفرسان واشترك في حربين منفصلتين مع الأتراك بين عامي 1737 ـ 1739.
عندما تقاعد منخاوزن وانضمّ إلى مجموعة من أصدقائه القدامى، كان يحكي لهم مغامراته في الحرب، ومعجزاته في الصيد، وتطويع الوحوش، والتغلب على قانون الجاذبية وقوانين الطبيعية.
وقد كان الناس يقابلون أقاويله بالكذب لدرجة إصابته بصدمة كبيرة حينما عرف أن الناس يطلقون عليه لقب البارون الكذّاب!
ويذكر لنا التاريخ الإسلامي قصّة المُدلّس
غياث بن إبراهيم الذي عاش في زمن الخلافة العباسية وكان يتظاهر بالعلم ويزعم أنه يحفظ الأحاديث ويرويها، وفي حقيقة الأمر أنّه كان مُدلّسًا كبيرًا يقترب من الخلفاء والأمراء بالفتاوى الكاذبة والأقوال المخترعة عن الرسول الكريم يخدع السذّج من الناس بأحاديثه بينما نبذه الكثير من المحدثين والفقهاء، ومما رُوي على لسان الخليفة المهدي عندما غادر غِياث مجلسه قوله:
(والله إنني أشهد أن قفاك قفا كذّاب) ووصفه بعض المحدثين بقولهم: “ليس بثقة”.
إننا نُصاب حقّا بالدهشة عندما نصادف مواقف على غير ما نرغب ولكن من الواجب علينا أن نتصرف وفق ما يقتضي الحال دون أن نجرح أحدًا أو نساوم على هزيمة آخر.
(سيصدقك الناس وإن لفقت لهم الأكاذيب فقط إذا كنت واثقًا مما تقول)، سيصدقك الناس إذا وضعت نظريات قيّمة في التربية وأنت لا تعلم طريق أبنائك، سيصدق النّاس أنّك مُصاب بالعشق إذا نظمت قصائد غزليّة وأنت تعيش البؤس بأقصى درجاته مع شريك حياتك.
عشْ الإخلاص بكلّ درجاته!