في المواقف يبان مدى التّعلق، ما يحمل الإنسان من مشاعر تجاه الآخر، أكانت المُناسبة حزينة أم سعيدة، أكان عملًا ما، فكلّ شيء في الحياة له فاعليته في الإنسان، وعليه يكون الفعل منه، نحن لا نُتقن التّعبير عن مشاعرنا، أن نُلبي ما يحتاجه الآخر.
الحياة الزوجية إن غابت عنها العاطفة فإنّ الأيام تُشيعها إلى مثواها الأخير، تظلّ رهينة الكلاسيكية في التّعامل بين الطرفين، كأدوات تُمارس فعل الوجود، ولا تتعداه إلى الإحساس بروعته، والتّناغم مع مسافاته، ودقائقه.
إبراهيم لا يُعبر عن مشاعره مما جعل ياسمين تتوجس من تعمده النّفور منها، فكيف لا يُشاركها فرحتها بالتّخرج حتى باهتمامه أو كلماته، وهو يعلم أن مساء اليوم سيُقام حفل التّخرج، وقد أخبرته بذلك، ليكتفي بقول: ألف مبروك، مُعتذرًا بأنّه مشغول لبعض الوقت، وسوف يتواصل معها لاحقًا.
انطلقن في المساء الذي يختلف عن كلّ المساءات إلى الحفل، تحملهن الأشواق، يتبادلن الحديث في سيارة الأجرة، إلا ياسمين يسكنها الصّمت، تُعذبها الدّقائق، الغضب يُزاحم مسامات وجُودها، فالغصة في قلبها، تقتات من غُربتها، تُحاول جاهدة عدم الإفصاح عنها، أن تُطلي ملامح وجهها بالسّعادة، لتُبعد عنه وشاح الحُزن، لم تشأ أن تلتفت حنان وعبير لما يختلج داخلها؛ حتى لا تُفقد عليهما روعة التّخرج والاستئناس به.
كان الجمال يُزيّن المكان الأنوار تُشبه ليلة عشق تمتزج بالضّوء والظُلمة، تمُوج النّظرات في المكان، وتلتقي بين الفينة والأخرى في عناق شفيف مع بعضها، تبتسم ياسمين برغم الألم في قلبها، واشتهاء أن تكتمل السّعادة بفلذة كبد، تُلاعبه، وتُسكبه من قلبها الحنان، وتُبادلها حنان الابتسامة، وخيالها، يستحضر ذلك المجهول، لترسم ملامحه بريشتها في سواد عينيها التي تُغمضها على وقع الأمل الشغوف، وتُلاطفهما عبير بارتعاش حُمرة وجنتيها، ليطوف بصرها على ذكريات أبيها، لينقبض قلبها في خفقاته، كأنّها، تُناديه، لتسقط الدّموع على خديها، وتقُوم ياسمين وحنان بمسح دُموعها واحتضانها.
أليس غريبًا أم ليس غريبًا أن تأخذنا لحظات السًعادة إلى استذكار ما يُؤلمنا؟ هل نحن لا نُتقن التّعامل مع الفرح؟ أم يأتي هذا سرٌّ من أسرار الإنسان، وتقلبات حالته النّفسية، وتداخلاتها؟
وجاءت الفقرة الأخيرة وسيسدل الحفل ستاره، الآن، سيتم توزيع وثيقة التخرج، الطالبات جميعهنّ تعلوهنّ السّعادة، كلّ واحدة كانت خطواتها تُسابقها على المسرح، لا تعلم أكانت قدميها تُلامس أرضيته، أم روحها كريشة تُداعبها النّشوة لاستلام وثيقة التّخرج، حيث الكلمات لا سبيل لها، سوى احمرار بارز في الوجنتين يُعبر أبلغ من الكلمات.
وهن تُبادرنّ إلى الخروج، ودّعنّ زميلاتهنّ، طلبت حنان بهاتفها النّقال سيارة أجرة، لتقُودهنّ إلى السكن، وبجانبها عبير، تنحت جانبًا، في زاوية بقرة، شجرة خضراء، الزّهور ذات الألوان المُختلفة، تُحيط بها، كأنّها، وهي واقفة، تُحطُّ في مُصور أغرته اللّقطة، فأطلق لعدسته اقتناص الدّهشة البصرية، وقامت بالاتصال بأمها، تزف لها الفرح، لهذا القلب، الذي أوجعته الحياة بألوانها القاتمة، لهذا القلب، الذي فارق شريانه النّابض، تُصغي إلى أنين الحسرة في كلماتها، لحرمانها هذه الفرحة من أنفاس والدها، الذي كان يتشوق إلى هذه اللّحظات، الصمت يُخيّم على شفتي عبير تُعيد تأثيث الحفل وتجعل من والدها خط الاستواء، الأنوار المُضيئة، وكلّ الأنس.
فجأة، اخترقت عبير الصّمت، وأطلقت أنفاسها، والدّموع، كاللّؤلؤ على وجنتيها، تبعث السّلام إلى والدها، تُهديه هذا النّجاح، تُغلفه بهذا اللّمعان في عينيها، لتبوح ببضع كلمات:
ماذا لو كان أبي هُنا؟!