وقفت فجأة عند فجوة اللاحدود، تقرأ كتاب حياتها، ومعها توقفت عقارب الساعة عن الدوران، لامست بقدمها أول عتبة من عتبات أحزانها، وبكل ضجيج الكون تنفست حسرتها، وتنهّدت وجعها، واقتلعت أشجار العمر البالية من جذورها، وعصفت سنين عمرها مسرعة إلى ما وراء المكان والزمان، وآهاتها أحرقت الأخضر واليابس أمام عينيها، وانتهت بها الآلام عند حدود الشمس، ظلت تذوب بلا سند في دروب الحياة، حيث بدأ القلق يتسلل إلى قلبها، يخيفها المستقبل، وهي ترى أحلامها تهرب من بين أناملها الضعيفة، ماذا تفعل في هذه الحياة بوجود خمسة أطفال، أكبرهم كان عمره اثنتا عشرة سنة، وعندما رجع الهواء إلى رئتيها بكل هدوء، وهدأت نبضات قلبها المضطربة، حتى اتسعت الفجوة الزمنية بينها وبين أبنائها مسرعة كالبرق، فقالت: في نفسها كم تعبت بتربيتهم، حتى كبروا، ودرسوا، وتخرجوا، وحصل كل منهم على وظيفته، وبعد ذلك تزوّجوا وأصبح لكل واحد منزله الخاص وحياته الخاصة، ورغم كل التضحيات التي بذلتها لأجلهم ذهبوا وتناسوا أنها في الوجود، وتجاهلوا أنها بدون وجودهم حولها تكون كالطفلة اليتيمة، حزينة وخالية من الداخل من كل ألوان الفرح، ولكن تركوها في المنزل المتهالك وحدها، ذلك المنزل الصغير مع جدرانه الباردة، وتلك الغرف المظلمة القاسية، والسرير الخانق، والوسادة السوداء الغريبة، التي أصبحت شبحًا يسرق النوم من تحت جفونها، لتصارع الحياة وحدها بجسدها الضعيف، ولا يعلم عن أحوالها إلا الله عز وجل.
كانت تدخر مبلغًا من المال، ليكون في اليوم الأسود العون والسند من بعد الله سبحانه وتعالى، في الحقيقة كانت تدخر المال من أجلهم، ولكن شاء القدر أن يكون ذا قيمة دون وجودهم، كانت تضع المال في صندوقها الخشبي القديم، هو كذلك صار يشبهها، أصبح باهت الألوان ومتهالكًا، أخرجت المال واشترت به عربة لكي تكون مصدر رزق لها، وكانت كل صباح تمسك بتلك العربة ويداها ترتعشان خوفًا مما يخبئه القدر في دروب الحياة، فيبدأ مشوار يومها المريض، وتدور عقارب ساعتها سريعًا لتكون الجلاد لتضربها بلا رحمة، وبعد كل هذه الأحداث تبدأ بالبحث في الحارات، ما بين أزقة الخوف، وما بين قمامة القهر، تبحث عن علبة بلاستك، أو علبة زجاج، أو علبة بيبسي تكون فارغة حتى من الهواء، تجمع كل ما تستطيع من تعب الشارع، هكذا يبدأ مشوارها الحزين كل يوم.
يأخذ هذا المشوار من عمرها ثلاثة أيام، ويضيف على تعبها ثلاثة أيام، لكي تجمع ما يكفي من وجع الحياة التي أخذت نصف شبابها، وتركت لها النصف الأخير لتصارع به الأيام، وفي آخر الأسبوع تذهب إلى صاحب الخردة، لكي تحصل على مبلغ زهيد مقابل ما جمعته من فوضى الطرقات، وكان صاحب المحل رجلًا طيبًا وكريمًا معها، كانت دائمًا تدعو له بالخير، في كل مرة تخرج من دكان الخردة، تدعو له بصوت خافت، كثر الله في خيرك، ووسع الله في رزقك، فكان يعطيها أكثر من قيمة ما جمعته، ورغم ذلك كان المال لا يكفي سوى خبز وعلبة ماء لنهاية الأسبوع، وكانت دائمًا تردد بصوتها الضعيف الحمد لله، والشكر لله، وبعد ذلك تغيب في غبار الوقت، وترحل مع الرياح الغاضبة، تمشي في الطريق الذي أدمى قدميها الضعيفتين، وفي عينيها ملامح الشارع الحزين الذي أصبح يشابه ملامحها الحزينة، وتغيب في ضباب الصباح،
في بعض الأحيان تواسي قلبها الحزين بذكرى جميلة من زمن أطفالها الهاربين من ظل والدتهم، وعندما تصل الشمس الخجولة نحو الغروب، تحاول أن تختفي في عتمة الليل الجريح، حتى تصل إلى أطراف الشارع المذبوح على أيدي أطفالها، ترجع إلى حارتها، تمشي على هون لكي لا تزعج القطط النائمة على كتف الطريق، إلى أن تصل إلى بيتها القديم، ترمي بجسدها النحيل على ذلك السرير الهش، هو أيضًا تقوس مثل ظهرها، هو الذي تحمل من عمرها سنين ولم يرحل مع من رحلوا، كم مرة شكرته على تحمله تعبها كل هذه السنوات، كان يسمع في الليل بكاءها بلا ملل، وكان يسمع شكواها بلا كلل، لقد حفظ كل أسرارها في مشوارها الطويل، ولم يشتكِ يومًا من كثرة سهرها حين تتركه وحيدًا، لقد شاركها العطش، والجوع، والوجع، إنها لا تتذكر متى أكلت آخر قطعة من اللحم، ولا تتذكر كيف كان لون الأرز أبيض أم وردي؟! ولا تتذكر طعم الحساء، ولا رائحة اليمون، أحيانًا تجول في خاطرها بعض من تأتأة الموت، متى ينتهي هذا العمر الحزين، لقد أتعبها هذا العمر الحزين، متى يدفن هذا الجسد النحيل، لكن لا يأتي ذلك اليوم، ولا يأتي ملك الموت، هل هجرها مثل أبنائها؟ لا، وألف لا، ولكن لم يحن موعد رحيلها، لهذا لم يأتِ بعد لزيارتها، هي تنتظره!
تسكت فجأة، وتقوم من مكانها، تبحث في المنزل عن أشياء تكسرها، لتخرج ما فيها من غضب، ولكن لا تجد شيئًا سوى القهر، حتى يكسرها هذا القهر الهزيل، تهمس في أذن اليالي اليابسات، ليرجع الصدى غاضبًا: اذهبي وكوني وحدك هناك، أنا لا أقبل أن أكون البديل، ويرحل صدى صوتها المبحوح مع جنون الريح، ويحل السكون في مكانها المهجور، تحاكي قلبها المغدور، عن ما فعلته معها الدنيا، أصبحت تشتاق إلى رائحة الأحلام، ولكن للأسف حتى الأحلام لم تعد تأتي في منامها، تلاحقها هواجس محاسبة النفس، وتفكر ماذا فعلت هل يومًا ما أغضبت أبويها ولو دون قصد، لا تتذكر. لا تتذكر. إن ذاكرتها تخونها مرةً أخرى، قالت: إذا لماذا هذا الهجران من الأبناء، لماذا ذهبوا وتركوني وحيدة، لم يرحموا ضعفي، ولم تأخذهم الرأفة بي ولا بكبر الأيام التي هرمت فوق ظهري، وإن هذه الدنيا الكاذبة كم خدعتني، كم كذبت وجرحت، وتركت جرحًا في ذاكرتي، ثم سكتت للحظات، وقالت: في خاطرها ألم يحكوا لنا من سبقونا: اضحك للدنيا تضحك لك، إذًا لماذا كلما ضحكت أوسعتها ضربًا، وتركتها وحيدة عمدًا، وكسرتها ورمت بها قهرًا إلى زاوية النسيان.
هي الآن تعيش في الحياة وحدها، تصارع الموت مرارًا بين قبضته الحديدية، كم شبع الليل من صمتها الغريب، وشرب الصباح من قهرها المكسور، وعندما جلست وتسامحت مع نفسها، دعت على مائدة الغذاء بعضًا من جراحاتها، ودعت معها بعضًا من ذكرياتها التي ضاعت في ضجيج الحياة، ولكنهم أيضًا خذلوها ولم يأتوا لمواساتها، وبعدما أخذت السنون العجاف من عمرها سبعين سنبلة خضراء، حتى أصبحت جميع سنابلها السبعين يابسات على يد الدهر، تحاول أن تقهر النهار بظلها الأعوج حتى يهزمها ويرحل هو الآخر ويتركها مع حسرتها، تغضب من نفسها تارةً، وتخجل من نفسها تارةً، وحين ينتصف عمر الليل تقرأ ما تيسر من القرآن الكريم، وتدعو بدعاء حفظتة من والدتها عن ظهر قلب، وبعدها تغفو للحظات، فتسمع أصوات أطفالها وهم يلعبون، فتنهض من سريرها فزعه نحو مرايا السنين، لترى ما فعلت الأيام بها، تزعجها ملامح وجهها الكئيب، فكلما وضعت يدها الجافة والخشنة على وجهها لم تعرف من تكون، لقد كبرت خطوط الأيام على وجهها الجميل، إن في تجاعيد جبينها حكاية من حكايات الحياة، وكل خط منها له حكاية رسمتها الأيام فوق جدران عمرها، منذ رحلوا عنها، وباب غرفتها مفتوح، ومجروح، ومذبوح، إنها انتظرت عودتهم، واشتاقت إلى ضحكاتهم، إلى صرخاتهم، إلى بكائهم في حضنها، إنها انتظرت، وانتظرت، وانتظرت، ولكن لم يأتوا، لقد مات الانتظار فيها واقفًا، وشامخًا كالنخيل.
أما الآن فلم تعد تشعر بقوة الألم فقد مات في داخلها، فلا أحد يشعر بوجعها سوى وجعها، والأمنيات لا تشفي سقمًا وإن كانت جميلة، ولا تسقي ظمأ عطشان لحظة الموت وإن كانت طعمها عذب، لقد مرت الأيام مسرعة بلا وداع، وهرمت الدنيا على كفها النحيل، وضعف بصرها فلم تعد ترى ألوان قوس قزح كما كانت، كل الألوان أصبحت أحادية ورمادية، وضعف سمعها لم تعد تسمع أصوات الطيور الجميلة وهي تغرد فوق غصن شجرة الزيتون القديمة، كم حفظت من حكايات الزمان، وكانت تحلم أن تحكيها إلى أحفادها حكاية بعد حكاية، ولكن اليوم لمن تحكيها، أين هم الأحفاد، وأين هم الأولاد، لقد خطفوا جميع أحلامها وذهبوا، حتى كلمة ماما ذهبت مع سرب الراحلين، وسلبوا من شفتيها شكل الابتسامة، وحرموها من أجمل كلمة وهي (أمي)!
في كل ليلة تحتطب من ضلوع الحياة، وتشعل النار في ركن غرفتها، ورغم ارتفاع النار يبقى المكان باردًا، والجدران الموحشة ترتعش خوفًا، وتنتظر أذان الفجر، حتى يرتفع صوت الأذان من منارة المسجد الشامخة، تفرش سجادتها وتصلي من جلوس، وحين تشرق الشمس من عين الصباح وتدخل من نافذتها ذات الشمال، حتى ينزل نور الشمس فوق جبينها، بعد ذلك تخرج من غرفة نومها إلى ما بعد غرفتها، كأنها المسافة بين الأرض والسماء، تضع فنجان القهوة الجاف فوق طاولتها المكسورة، ويدور شريط حياتها أمام عينيها، ترى أطفالها وهم يلعبون، ويركضون، ويصرخون، في ذلك الخندق الضيّق، وفجأة ينقطع شريط الذكريات، ويرتفع صوت الراديو من بيت الجيران، ويشدو صوت (فيروز) ليصل إلى آخر بيت في الحارة! وفي المساء تنتظر القمر يخرج من خلف السحاب فرحًا، لتسترجع نصف عمرها الضائع، تحلق روحها إلى السماء فرحة بذكرياتها البسيطة والجميلة، تلامس النجوم في مدارها، ويرتفع في الكون صدى آهاتها، وتساعد روحها في لملمة بقايا جروحها القديمة، وبعد تلك الفوضى العارمة، يعود لها وجع العمر الحزين إلى مكانه، حيث يقبع في ركن من أركان صدرها الضيق، ليختنق هناك.
وبعد كل هذا الغياب، وهذا التعب لقد التقت أحفادها، نعم التقت بهم، إن فرحتها القديمة من ساحات الماضي نهضت، ونوارس الحب إلى شاطئ العمر الحزين رجعت، نعم اجتمعت بهم، إن أحد أبنائها قد شعر بتأنيب الضمير فجمع إخوته، وقال لهم لقد هجرنا أمّنا، والسنون مرت ونحنُ لها عاقون، إلى متى هذا الجفاء وهذا العقوق وهذا الجفاف العاطفي المدمر؟ فما فعلناه اليوم مع أمنا، سيفعله معنا أبناؤنا غدًا، لنتدارك خطأنا، ونطلب العفو والسماح قبل فوات الأوان، سوف نجمع الأبناء ونخبرهم أن هناك كنزًا عظيمًا، وأن بالمدينة وفي ذلك الحي وفي البيت القديم أشياء ثمينة، وجميعهم وافقوا على الاقتراح، وجمعوا الأبناء وأخبروهم أن المكان الموجود على الخريطة يوجد به كنز، ومن يعثر عليه يكون من نصيبه، تحمس الأبناء وذهبوا للبحث عن الكنز الثمين، إلى أن وصلوا إلى عنوان البيت الذي تسكن فيه جدتهم، دخلوا البيت وبدأ البحث في أركان المنزل الكئيب، إلى أن وقفوا عند حدود تلك الغرفة المظلمة، وصوت حفيف الريح يخرج من فتحات الجدران المتعبة، إلى أن وصلوا الغرفة الصغيرة، فسمعوا منها أنينًا، وصوتًا مخنوقًا مجروحًا مبحوحًا، اقتربوا وفتحوا باب الغرفة، وإذا بامرأة عجوز، مقوسة الظهر، وجهها الدائري كالبدر في كماله، وعيناها العسلية ضاقت من كثرة البكاء والسهر، دخلوا جميعهم إلى الغرفة، واجتمعوا حولها، وهم ينظرون إلى بعضهم البعض في ذهول، من هذه المرأة؟ من تكون وكيف تعيش وحدها في هذا المكان؟ فجأة أتاهم الصوت من خلفهم، وبكلمة واحدة، هذه الكنز العظيم، إنها جدتكم، نعم إنها أمنا، ونحنُ أبناؤها العاقون، وعندما اقتربوا منها سجدوا جميعهم يقبلون قدميها يبكون نادمين على ما فعلوا، وضج المكان بأصواتهم، وبكلمة واحدة، وبصرخة واحدة، صاحوا جميعًا اغفري لنا ما اقترفناه في حقك يا أمي، اقتربت منهم وهي ترتجف في مشيتها، وهمست لهم بصوتها الدافئ الحنون، وروحها الثكلى التي تجول في المكان من سنين، وقالت لهم: قفوا على أرجلكم جميعًا، ونادتهم بأسمائهم واحدًا تلو الآخر، وقالت: متى غضبت منكم لكي أسامحكم، إن قلبي يحمل لكم حبًا لا تتسع له هذه الدنيا، وإن قلبي الضعيف لا يحتمل كل هذه السعادة، الآن أرحل إلى جوار ربي وروحي بكامل رضاها وسعادتها، لقد حقق الله أمنياتي، وابتهجت روحي، وسررت بالنظر إلى وجوهكم التي لم تفارق قلبي وعقلي ما حييت، وبعد كل هذا الحنين والشوق الكبير لأبنائها هدأت روحها وأسندت رأسها فوق أيدي أحفادها، وأغمضت عيناها الحنونة، وبكل هدوء فارقت روحها الطيبة الحياة. (الأم هي الكنز العظيم).