تكادُ أجيالنا المتعاقبة أنْ تُغيِّبَ الكثير من المثل والأعراف الخلاقة والتي كانت سائدة في مجتمعاتنا السابقة حتى أصبحنا غرباء بين بعضنا إلَّا من لزوم صلات قهرية بين الأرحام وما تفرضه الظروف سرعان ما تتبدد لأتفه الأسباب.
ليس عبثًا حين نتذكر الماضين ومنهم الآباء والأجداد ونتحسر عليهم وقد عاصرنا بعضهم ورأينا كيف كانت الحياة مثالية مستقيمة تتماهى مع الدين والقانون بالسليقة والجبلة والفطرة النقية التي خلق عليها الإنسان واختزنها العقل وحكمها القلب لتظهر كأفضل ما تكون عليه الصفات الإنسانية الحقة.
لقد عاشوا الحياة الفاضلة بمعناها الحقيقي رغم المنغصات التي كانوا يعانون منها، من فقرٍ وأمية وأمراض كانت كفيلة بعدم الاكثراث بأبنائهم وبناتهم. ولكنهم كانوا يدركون في غالبهم الأعم أنها مسؤوليتهم التي تفرض عليهم تربيتهم ليصنعوا منهم رجالًا في مصانع الكد والجهد والتعب فضلًا عن السلوك الذي لا يعتريه خدش ولا يمسه عيب، لأن ذلك سوف يرتد سلبًا عليهم وعلى مجتمعهم وذلك ما لا ترضاه حميتهم ولا غيرتهم ولا أصالتهم التي توارثوها عن سابقيهم.
ولكم يؤسفنا أننا لم نحافظ على ذلك الإرث النفيس والذي تكاد أن تخفيه المدنية بزخارفها، ويقتله التغيير المضطرد بثورته في الحياة، فإذا بأجيالنا بدل أن تحافظ عليه وعلى أصالته ومثله وأعرافه القويمة قد أهملت ذلك كله أو تكاد؛ لتعيش حياة أخرى مختلفة تمامًا، لا ننكر حقهم فيها، وفي جودة بعضها وما بها من تطور وحداثة، ولكن على حساب رصيد أهملته بحجة التقادم، وكأن كل حديث تقدم قادم.
ولنفترض ذلك جزافًا حيث عجلة الحياة تتطلب التغيير والتطوير، ولكن هل السلوك والتربية يتطلبان التغيير؟ هل المبادئ تتغير، هل القيم والمثل والدين والأخلاق والفضيلة تتبدل؟ نعم هي من المرونة بحيث إنها تنفتح وتتسع لتتوافق مع التطورات والتقلبات والإنسان في كل زمان ومكان، ولا نبخس الشباب حقهم في زمان هو زمانهم، ولكن تبقى الثوابت ثابتة وراسخة في أعماق الأصالة، فالتربية فطرة والسلوك منهاج، وهما لا يحتاجان للعلم والمعرفة ابتداءً كأساس، فالإنسان ينقاد لذلك انقيادًا عقليًا وقلبيًا – واسألوا غراب قابيل وهابيل. فلا خير في حداثة وتطور تجعل المرء يتنمر على المبادئ والدين والقانون ويضرب بها عرض الحائط، وبالتالي يكون هو القاتل والضحية على حد سواء.
تخلينا عن كثير من الأمور والتي أهونها إفشاء السلام. وعن احترام الوالدين وصلة الأرحام. عن اللحمة الاجتماعية. وافتخرنا بترك مقاعد الدراسة والاحتفال بالطلاق. والإسراف وعدم الحفاظ على النعمة وأوهننا الالتزام بالواجب الديني واحترام القانون والذي يصب في مصلحة الناس جميعًا. لم نعد نكترث باختيار نوعية البشر حتى اختلط الصالح بالطالح – وضاعت الطاسة – وعقول أجيالنا أضحت فارغة إلا من اللهو والعبث وإشغال أوقات الفراع بالتفاهات على حساب المستقبل. والبيوت أصبحت مثل الفنادق حتى تفككت الأسر أو تكاد، ولم يعد الوالد يعرف أين يذهب أبناؤه. ومتى يخرجون ومتى يعودون. فلا حول له ولا قوة وهو يرى كما يرى غيره ظاهرة التمرد تتفشى على نطاق لا يطاق.
أجيالنا تحتاج إلى إعادة تأهيل حتى الوصول لعلامة السلوك والتربية التامة، ولا يكفي أن تكون الأسرة هي المسؤولة وإن كانت هي مهمتها الأولى. المجتمع أيضًا مسؤول وله دور أساس. والمدرسة كذلك لها الدور المعتبر متى ما أرادت، خاصة للناشئة وطوابير الأطفال واليافعين ممن يحتاجون فعلًا إلى غير الأسرة. وليت جهات التعليم الموقرة تهتم بهذا الأمر وتقرر تدريس مادة تربوية سلوكية بمختصين ومؤهلين حتى نهاية المرحلة الثانوية.
عجلة الحياة السريعة عجَّلت وكما أسلفنا بتبديد موروثنا التربوي والسلوكي والأخلاقي إلا ما قل وندر، وليتنا كنا مثل بعض المجتمعات القريبة منا والبعيدة التي يحرص أهلها على تربية أجيالهم وفق ما اكتسبوه من موروث السابقين سواء اتفقنا أو اختلفنا معهم في ذلك، مع تقبل ما تغير في الحياة ولكن بشروط عقلانية ومنطقية، وهكذا تحافظ الأجيال على موروثها والذي يتطور باطراد إلى الأفضل جيلًا بعد جيل لتسير الحياة بطريقة تقدمية واعية وناضجة.