ربما كان العذر مفهومًا ومقبولًا قديمًا جدًا حين يقطع المرء دراسته لأسباب قهرية، خاصة تلك التي تتعلق بشظف العيش، وقت أن كان الفقر مدقعًا؛ إما لمساعدة الأب المنهك أو لفقده، مما يضطر الشاب أو الصبي الذي لم يبلغ الحلم لأن ينذر نفسه لذلك، ويُحرم من سنوات صباهُ ووهجها وأوقاتها المرحة، ليخوض لجج الحياة القاسية التي لا تتناسب حتى مع بنية جسمه الغض.
أما والموقف قد اختلف، وقد تحسنت ظروف الحياة، وتهيأت وتنوعت فرص العمل، فلا مبرر لترك الدراسة والتعلم، ولم تعد الحجة قائمة لأي أحد في الغالب إلا ما ندر، مع أن ذلك لا يتعارض مع التعليم إن اجتمع مع العمل بطريقة توفيقية، خاصة مع وجود المدارس الليلية والمعاهد التدريبية الخاصة.
إن التركيز إلى مسألة التعلم هو من أجل أن يواكب الإنسان متغيرات الحياة المتطورة المتلاحقة، وهي ما نراه ونعاينه ونحتاج أن نواكبه، لا أقل بإجادة القراءة والكتابة تفصيلًا وإجمالًا.
مسألة ترك الدراسة لمجرد تركها أو كرهها، أو لعدم التوفيق فيها، هي ضرب من السفهِ والطيش المحض، وهي للأسف طريق مؤداه الضياع والانفلات والارتماء في أحضان الظلام والأمية المطلقة.
ومهما كاب الإنسان وساق المبررات، وظن أنه لا يحتاج العلم وقد ورث المال والأعمال فإن ذلك لا يغيب الحقيقة المرَّة بل يؤكدها أكثر، لأنه حينها تستلزم الحاجة للمعرفة بل وللتخصص تباعًا.
وبين هذا وذاك، فإن مواكبة التطور المتسارع وثقافات البشر يصبح من الضرورات الحتمية، حتى يشعر الإنسان بقيمته الحقيقية كإنسان في دنيا تطرد نموًا وتقدمًا ساعة بساعة، وهو قابع في الجهل ولا يملك حتى سلاح الكتابة والقراءة ليتابع ويفهم ويواكب ما يجري من حوله، دون الحاجة لأحد في الكبيرة والصغيرة.
فكثير من الأمور سهلٌ إذا تسلح الإنسان بالتوأمين “القراءة والكتابة” حيث يمكنه من خلالهما أن يبحر في بحور العلم حتى بدافع شخصي وتعليم ذاتي فضلًا عما هو متاج من التعليم المجاني. وكثير من البشر اجتهدوا وتعبوا على أنفسهم وتعلموا وحصلوا على درجات عليا في مختلف العلوم.
ولا أقل، إن استعصى ذلك من أن يملك المرء الأساسيات التي تجعله يفقه ما يدور حوله، وما يفترض أن يقوم به، فلا يكفي أن يستمع وهو لا يفقه الكثير مما يستمع إليه، بل إنه حتى في الأحاديث العامة والخاصة لا يملك النزر اليسير من الثقافة التي تساعده لمشاطرة الحديث بوعي وإدراك وثقة لافتقاده الأدوات المساعدة على ذلك، وأما الأحاديث العابرة فهي عابرة بلا روح ولا معنى ولا فائدة، بل إن الأخطر في بعضها حين يكون الحديث في أمور مهمة جدًا، ويفتي فيها من لا يفقه ولا يعلم ولا يفهم شيئًا ومع ذلك يخوض فيها بلا احتراز أو اتقاء.
من هنا تأتي الاختلافات والخلافات بين طبقات البشر، وتشخص رؤوس الجهل، وتكون غالبة أحيانًا لأنها تستخدم الصراخ سلاحًا، والمكابرة درعًا، وهو مما يجعل العاقل ينهزم وقاية لنفسه، وحفاظًا على أقل ما يمكن تداركه من الوئام والسلام المجتمعي.
إن ما تعانيه بعض المجتمعات وخاصة تلك البعيدة عن ضجيج المدن هو وجود بعض العقول الخاوية التي لا تنفك عن محاولة فرص ذاتها بجهلها المتنمر على حساب الناس المتحضرين ممن نالوا قسطًا وافرًا من العلم والثقافة والفهم، لكنهم وللأسف يتحاشون الاحتكاك بأولئك حتى لا يهانون وربما يخسرون ثقلهم ومكانتهم إن هم تنازلوا ونزلوا لمستوى الشارع الجاهل وإن بدى مقتصرًا على قلة من البشر، ولكن تأثيره مثل تأثير الفايروس الذي ينتشر سريعًا، ليحتاج المجتمع بأكمله عندها إلى علاج بعد أن يصل إلى مرحلة متقدمة من التفكك والانفلات وربما العداء.