همسة رقيقة: أبخس البيع بيع المشاعر لمن لا يعرف قيمتها!
القارئ العزيز، حقًّا تظن أن كلّ العصافير تغني طربًا ولا يشغلها همّ؟ ألا تعتقد أن لكلّ مخلوق همًّا على قدر حجمه، وإلا لماذا هذه العصافير تكثر من الزقزقة والتغاريد في أقفاصِ الحبس؟ أم لأننا لا نفقه تسبيحها ولا شكواها نقول إنها فرحة؟! الحمد لله أننا نستطيع إخفاء مشاعرنا وكتمها عن الناس، “حسب المرء.. من صبره قلَّة شكواه”.
وإذا فاضت المشاعر يوجد في الدنيا من الأصدقاء والأهل من يحفظ الأسرار ويكتمها مثل البحر! عن الإمام علي (عليه السلام): “من شكا الحاجة إلى مؤمن فكأنه شكاهَا إلى الله، ومن شكاهَا إلى كافر فكأنما شكا الله”.
في هذه الآونة يفضفض النَّاس وينفسونَ عن مشاعرهم في وسائل التواصل بطرق عشوائيّة، هذا يسبّ وذاك يحب، مع أناس لا صلة لهم بهم، فما كل من تبوح له بحبك يستحق ولا كل من عبرت عن كرهك له أنتَ على حقّ! غير أن الحقيقة؛ المشاعر أغلى من الذهب!
مشاعر تتناقل عبر الرسائل الإلكترونية وتطوف العالم بين غرباء؛ مشهور، لاعب، “فنان”، هل كلهم أُبادلهم الودّ دون احتشام؟ رأيي يحتمل الصواب والخطأ: إذا كان لا بد من التنفيس عن المشاعر، اجعل لك في الدنيا صديقًا ودودًا تثق به، وإذا لم تجد فالله خير الأصدقاء.
بعض الفضفضات في الفضاء المفتوح تشين صاحبها وتقلل من مقداره! والعاقل لا يستقل ولا يحط من قدر نفسه ولا يعطي النّاس فرصةً أن يهدموا بنيان شخصيته:
ولَمّا أَتَيتُ الناسَ أَطلُبُ عِندَهُم ** أَخا ثِقَةٍ عِندَ اِبتِلاءِ الشَدائِدِ
تَقَلَّبتُ في دَهري رَخاءً وَشِدَّةً ** وَنادَيتُ في الأَحياءِ هَل مِن مُساعِدِ
فَلَم أَرى فيما ساءَني غَيرَ شامِتٍ ** وَلَم أَرَ فيما سَرَّني غَيرَ حاسِدِ
قالَ الإمام علي (عليه السلام) نصائح، كل واحدة أغلى من حفنةٍ من الذهب، كم تمنيت أن تدرس من قبل علماء النفس في مدارس اليوم! فلو تتبعنا وصاياه في حفظ السرّ لما باحَ واحد منا بأسراره الشخصيّة لأحد، وهذه واحدة منها: “كلما كثر خزّان الأسرارِ كثر ضياعها”. لا بد أن القارئ العزيز يعرف السرعة التي تنتقل بها الأسرار بين النّاس، خصوصًا في هذه الآونة! عكس ذلك، كان الإمام علي (عليه السلام) يطلع على البئرِ إلى نصفه ويخاطب البئرَ:
وفي الصدرِ لباناتٌ ** إذا ضاقَ لها صدري
نكتُّ الأرضَ بالكفِّ ** وأبديتُ لها سرِّي
فمهما تنبت الأرضُ ** فذاكَ النبتُ من بذري