تمتاز الحكاية الخرافية بأنها تأتي دون أي ذكر لمكان الحدث أو معلم يدل على مكان حدوثها، أو في أي زمان جرت، هذه خاصية مهمة جدًا للأدب الخرافي لجعله نصًا شعبيًّا عالميًّا، والحكاية الخرافية تأتي أهمية دراستها ونفض الغبار عنها؛ كونها تعبِّر عن ثقافة الشعوب ومعتقداتها وأفكارها وسلوكها والتركيبة الاجتماعية والنفسية لذلك المجتمع ونظرته للكون والخالق الإله.
وهذا يقودنا أحيانًا إلى طرح تساؤلات حول ما إذا كانت هذه الشعوب القديمة تحمل ذات الهم والثقافة؟ وهل هي ذات مصدر واحد، رغم اختلاف الرقعة الجغرافية؟ ذلك حين نلحظ تكرار بعض المضامين في نصوص حكائية وردت عند شعوب مختلفة؟
إذا أردنا أن نقف عند ظاهرة الاحتفاء بالضئيل/ قصير القامة نلاحظ من خلال تتبع بعض النصوص الخرافية أننا أمام ظاهرة تكاد تتكرر في ثقافات متعددة تفصل بينها فواصل اجتماعية ودينية وحضارية.
كيف كان هذا الاحتفاء؟
المتتبع لهذا الموروث يلاحظ الكيفية التي احتفت بها الشعوب بقصير القامة/ الضئيل، وذلك من خلال الانتصار له وجعله ذا قيمة ثقافية ومكانة اجتماعية، ذلك لما يتمتع به من حكمة وذكاء، ومقدرة على استخدام قدرات العقل البشري، إضافة إلى استطاعته القيام بالمهام الصعبة وحل المشكلات إزاء الأخوة الكبار ذوي الجسم القويم أو مصارعة الغول/ الغولة (الذي جَسَّد الشر في الموروث الحكائي الشعبي العالمي).
والضئيل كما تُقدِّمه نصوص الموروث الخرافي عبارة عن مخلوق بشري وُلد بحجم صغير جدًا لا يتعدى طوله حجم الكف أو الأصبع أحيانًا أو طول أذن البعير كما عبَّرت عنه خرافات التركمان كما سنرى بعد قليل، حيث احتفت بهذا الكائن البشري لما يناله من السخرية أحيانًا أو الاستهانة بقدراته حينًا آخر، بينما يمتاز هذا الضئيل بقوى ذهنية عقلية، وبحكمة قد يفتقدها أسوياء الجسم.
فمن تراثنا الخليجي مثلاً (انتيف انتيفان)، هذه القصة تنتشر بشكل كبير على ضفاف حوض الخليج العربي، وقد سمعتها في مدينة القطيف، و(انتيف) هو بطل الحكاية الذي عانى ضآلة في جسده وقبحًا في شكله وهيئته، إذ تقول الحكاية باختصار: يُحكى أن امرأة عاقرًا قادها التفكير لأن ترقد على أربعة أرغفة، فجاءتها في إحدى المرات جارتها التي قادها فضولها إلى أن تطلب منها عمل القهوة، فلما رأت الأرغفة قامت وأكلت من أحدها قطعة، ومع الوقت اكتست هذه الأرغفة لحمًا ودمًا وصارت رجالاً إلا واحدًا أصبح ضئيل الجسم وقبيح المنظر، وبعد سنين انطلق الأخوة للبحث عن الكنز، رافضين أن يكون معهم “انتيف”. ركبوا الخيول وانطلقوا، بينما ركب “انتيف انتيفان” تيسًا ولحق بهم، وكان هذا التيس يمثل الأداة السحرية للبطل، وهذا هو دأب الحكاية الخرافية حيث يكون للبطل أداة سحرية، لكنّ “انتيف” هو من ذلل لهم الصعاب أثناء رحلتهم بحنكته وحكمته وأداته السحرية.
وتُقدِّم هذه الخرافة مثالاً للذي يُطلب عند الحاجة رغم الإقلال من قيمته والسخرية من مظهره وضآلته، فيحضر لهم ويذلل لهم الصعاب، ويحل لهم المشكلات. وفي التراث الفرنسي حكاية (عقلة الأصبع) التي تشابه حكاية “انتيفان” في بنيتها وفي تسلسلها باختلاف بعض الموضوعات. ويقدم لنا الأخوان “غريم” حكاية عن (الأقزام الثلاثة) الذين قدموا المساعدة للفتاة التي أرغمتها زوجة أبيها على الخروج في البرد والصقيع والبحث عن نبتة “الفريز” نظير حُسن أدبها معهم ومقاسمتهم الخبز الذي كان معها رغم كونه يابسًا وغيرها من الحكايات.
وفي سياق آخر يروي لنا الأخوان “غريم” أيضًا حكاية أخرى عن القزمين اللذين كانا يأتيان ليلاً، وبعد أن ينام الحذّاء، ويساعدانه في صنع الأحذية، إذ لم يكن هذا الحذَّاء يملك من الجلد إلا ما يكفي لصنع فردتي حذاء واحد، وهكذا كانا يأتيان كل ليلة دون علمه، والحذّاء في كل يوم يزداد بيعًا للأحذية، وبفضل هذين القزمين أصبح الحذَّاء وزوجته أغنياء حتى قررا ذات يوم السهر في ليلة عيد الميلاد ليعرفا من الذي يساعدهما حتى تعرفا عليهما.
وقد روى لنا “عبده خال” حكاية خرافية وهي أبناء العجينة (المنتوف)، إذ تتقارب كثيرًا مع خرافة “انتيفان” في هيكلها العام، بينما البطل “المنتوف” مع أخوته كانوا أبناء ملك، وجدهم كذلك كان ملكًا، حيث قتل ابن الوزير جدهم لأمهم الأميرة، وتسلم الملك.
وفي الموروث الحكائي العراقي نجد حكاية (القزم الذي طوله شبر وطول لحيته أربعون شبرًا) الذي فشل أخوه الأكبر في استرداد أموال أبيه من الدائن، فاستأذن من أبيه للذهاب للـ(ديو) وهو اسم الدائن، ورغم أن والده رفض طلبه فإنه لم يستمع لكلامه وانطلق مع كلبه الذي طوله نصف شبر، وكان هذا الكلب هو الأداة السحرية التي امتلكها، إذ أعانه كثيرًا على استرداد أموال أبيه.
ويحفل الأدب الشعبي التركماني بشخصية “يرطة بولاق” الذي لا يتعدّى حجمه نصف أذن البعير، فنجده في أكثر من حكاية خرافية كيف أنه تخلَّص من الحفرة التي وقع فيها، وتارة أخرى كيف خلَّص الحسناء ذات الصوت الحسن من “محمد خان” الذي كان يريد الزواج منها عبر خطة ذكية، وتارة نجده في حكاية أخرى كيف أنه أقنع الرجل العجوز بأن يصبح ابنًا له رغم حجمه الصغير، وأنه ذو فائدة كما يحدثنا “يرطة بولاق” ويسوق على لسانه الحِكَم، ومنها مثلاً: “إن الماس أيضًا صغير ولكن الماسة الواحدة تساوي من حيث الثمن مائة بعير كبير”.
هذه النصوص تسير في خط موازٍ وتنتهي عند نقطة ونهاية واحدة وهي الغلبة لذي الجسم الضئيل المتمثلة في غلبة العقل والحكمة على الكمال الجسدي وقوته، فنجده حينًا في نهاية الحكاية يتزوج ابنة الملك أو يصبح هو نفسه ملكًا، وحينًا آخر ينقذ الأسرة أو القرية من شر الغول. هذه النصوص كما رأينا تقع في مواقع جغرافية مختلفة، لكن القيمة الفكرية والاجتماعية تتكرر بشكل ملحوظ، وكأن البيئة واحدة والشعب واحد.
وهذا ما نجده في النصوص الحكائية التي انتصرت للأخ الأصغر لتقدم لنا ذات المضامين الاجتماعية في تقديم الأخ الأصغر بما يملكه من الخبرة والإتقان.
منشأ التشابه: أدى هذا التشابه والتكرار في المضامين إلى سجال بين دارسي الأدب الشعبي والميثولوجيين، كما أدى إلى انقسامهم إلى مدرستين، المدرسة الأولى تقول: إن هذه الحكايات إنما كانت ذات مصدر تاريخي واحد، وتناقلتها الشعوب فيما بينها من خلال الاتصال الحضاري، وهذا ما ذهب إليه العالم الفلكلوري “فلادمير بروب”، حيث يرجع أصل الحكايات إلى مصدر مشترك، وهي الهند، حيث اكتشف أن الحكايات الخرافية تأتي وفق نُظم معينة لا تخلو منها الحكايات الخرافية، وتسير عليها بشكل دقيق ومدهش، حيث اكتشف أن الحكايات الخرافية تحتوي على واحدة وثلاثين وظيفة، ولا تفرِّق في بنيتها بين حكاية جاءت من بيئة معينة وأخرى جاءت من بيئية حضارية مغايرة. وقد تأثر بهذا المنهج البنيوي كذلك “غريماس” إلا أنه قلل من الوحدات الوظيفية إلى عشرين وظيفة. وأما المدرسة الأخرى من الميثولوجيين فيرى أصحابها أن سر تكرار الحكايات في موضوعاتها ومضامينها إنما هو إنتاج محلي، وذلك لتشابه العقل البشري في خبراته وتساؤلاته عن الكون، وحاجته إلى الحفاظ على الأخلاق الإنسانية والنظام الاجتماعي، فهذه حاجة ماسة لكل الشعوب، والمشكلات التي تواجهها الشعوب واحدة، ولهذا تنشأ الحكايات التي يستخدم الإنسان فيها لغته وتفكيره وثقافته التي تعتبر شاهدةً، وإرثًا لتلك الحقب القديمة. ويقول الباحث “جوزيف بيلي” في هذا السياق: “إن كل حكاية أو نموذج لحكاية يمكن أن يُؤلف ويُعاد تأليفه من جديد مئات المرات، في أزمنة وأمكنة مختلفة، كما أن التشابه الذي يلاحظ بين حكايات بلاد مختلفة، ما هو إلا نتيجة لتشابه العوامل الخلاقة للعقل البشري”. ومن أولئك؛ الباحثان الأخوان “غريم” لتشابه الحكايات في مضامينها في نظرهما وإن اختلفت في أحداثها، ولكن البنية تتقارب مع بعضها، وكانا قد جمعا الحكايات بهدف معرفة اللغة الروسية القديمة ومقارنتها باللغة الروسية الحديثة، وهذا مما يدلل على أهمية الموروث الحكائي الشعبي لمعرفة لغة الشعوب، إلى جانب العلوم الإنسانية الأخرى كعلم الاجتماع والنفس وغيرهما من العلوم، وعلى ذلك فإن الحكايات الخرافية، بحسب أصحاب هذا الرأي، لم تأتِ بالضرورة من مصدر واحد، بل نشأت من داخل المجتمع ذاته.
من مُنشئ هذه الحكايات؟
بالعودة لشخصية ضئيل الجسم فثمة سؤال خطير يتكرر ألا وهو: هل عاشت شخصيات ضئيلة في الشعوب؟ ولماذا اختارت هذه الشخصية وتكررت بشكل لافت ومدهش في عدة حضارات؟، بل ولماذا تصرّ الشعوب على جعلها ضمن ثقافتها؟. إن أي شعب حين يتقبل نصًا شعبيًّا أو خرافيًّا ويتلقفه عبر ألسنة الرواة، فإنه لم يفعل ذلك إلا لأنه اندمج مع فكره وروحه، وراح يرويه مشافهة جيلاً بعد جيل، مما يجعله مثل هذه الحكايات تنشأ لإيصال مضامين اجتماعية وإنسانية لتلك الشعوب، وسواء اعتبرنا أنه أنشأها من خياله أو شُوهدت مثل هذه الأصناف، ولا يستبعد أنها شوهدت، ففي حياتنا الآن توجد لدينا مواليد تتصف بضآلة في الجسم، ولكننا نلاحظ فيهم إبداعًا وتميزًا، إضافة إلى تغلبهم على الصعاب، وهنا نشعر بأن هذه النصوص أنشئت لتعبِّر عن القيمة الاجتماعية لهذه الفئة في تغلبهم على الإنسان المكتمل جسدًا بالحكمة والعقل والإبداع. ولذلك فإنه من المحتمل أن يكون منشئ هذه الحكاية هو الإنسان الضئيل (أو الأخ الصغير)، حيث أراد تمرير فكرته عبر الحكاية لجعلها ثقافة وقانونًا اجتماعيًّا ينظر من خلاله على أنه ذو فائدة، ويمكنه أن يقوم بعمل أشياء لم يستطع فعلها ذوو الأجسام القويمة؛ فالاحتكام للعقل والحكمة والأخلاق، لا الصفات الجسدية القويمة فقط، وذلك عبر إنتاج النصوص الحكائية التي كانت محبذة للمتلقين الجماعة. وثمة احتمال آخر ألا وهو أن القائل قد يكون شخصًا، سواء أكان رجلاً أم امرأة، يمتاز بالحكمة والنضج ومحبة الخير للمجتمع، محاولاً الحفاظ على نسيجه من أن تصيبه ثغرة، فيبث تلك القيم الأخلاقية والاجتماعية في قالب حكائي للإمتاع من جهة، ولتقديم قيمٍ تربويةٍ واجتماعيةٍ تضامنيةٍ من جهة أخرى. فقائل الحكاية بحسب الاحتمالين كان يسعى لفرض قانون اجتماعي، ويؤطر علاقاته لجعلها أكثر نضجًا وانسجامًا، إضافة إلى استهدافه أن تكون متساوية في التعاطي فيما بينها، بدايةً من الأسرة التي هي لبنة المجتمع، وحتى جميع أطيافه، وكذلك علاقة الملك مع الرعية.
يقول عالم الأساطير الأمريكي “جوزيف” من مقال د. أحمد سلامة: “الذي اخترع الأسطورة هو في الأصل إنسان عبقري ومحب جدًا لقومه، لكنه لم يكن يملك القوة لفرض القانون، ففرضه من خلال الأسطورة”.
وظاهرة الاحتفاء بالضئيل ليست ببعيدة عن زمننا الحاضر، ففي كل فترة نقرأ أو نشاهد في قنوات التواصل بعض الشخصيات من ذوي الضآلة وكيف أنهم تجاوزوا قصورهم الجسدي ليحققوا طموحاتهم، ففي إحدى المرات احتفى العالم برجل فلبيني وُلد بجسم ضئيل جدًا لكنه تحدى كل العوامل وحقق ذاته، حيث تخصص في مجال الطب. ومنذ فترة طالعت فيلمًا وثائقيًّا يسجل حياة فتاة هندية اسمها “جيوتي أمجي” يصل طولها 62.8 سم، وُلدت وكانت تعاني ضآلة في جسدها، ولكن ذلك لم يعقها أن تصبح مطربةً مشهورةً.
إذن فالحكايات والأساطير التي كان يُنظر إليها على أنها نصوص للأطفال والسذج من الناس، ما هي إلا ميراث الشعوب وديوان الأمم، كما كان يُنظر للشعر في مراحله التاريخية القديمة على أنه “ديوان العرب”. إن الحكايات تقدم لنا هذه الشعوب على أنها ذات فكر صافٍ، لا يشوبها الانحراف، فلا نجد في تلك الحكايات الخرافية والشعبية إلا انتصارًا للخير ضد الشر، كما أن تلك الحكايات ظلت عبر التاريخ ترافق الإنسان، وتسجل حياته، وما كان يواجهه من مصائب ومتاعب، وكيف كان ينظر إنسان ذلك العصر للكون، وما هي تصوراته الدينية والثقافية، وما هي لغته التي يسجل فيها تساؤلاته الكونية وما يشاهده من ظواهر. فالعالم يدين للمكتشفات من الأساطير التي لولاها لما وصلنا خبر عن حياة تلك الحقب الموغلة في القدم كأسطورة جلجامش وأسطورة الإلياذة والأوديسة وأساطير اليونان والأساطير الفرعونية عبر المكتشفات الحجرية من نقوش وأحجار وأحافير وغيرها.