هَناكَ مِن أجلّ نبض الوَمْضَات السريعة، وأكمل ألق البارِقَات الساطعة، تمرّ هونًا يسِيرًا بزخمها المِعطاء، بأخيِلة النفس البشرية، بطُول سِلسِلة بنات الفكر الخاطِفة، المغلّفة داخِل لُبّ بُطون كَبسولاتِها المَكنُونة المُستَتِرة، وتَتطّوف زهوًا برَيع ربيع أخيلتنا الخصبة غَالبًا، كَمرّ السحاب الثّقال، لتخطِف برُكام رَشاقتها البِكر، أطياف مْتّئدِ خُطاها المُتسارِعَة الوادِعَة؛ وتدور برائق حُرّيةٍ مُطلقةٍ، كَدوران نصل مِحور، وخَطف كُتلة كَوكَب “عُطِارِد” المعروف عِلميًا، بحَرّة كتلتِه، وشِدّة دَرجة لَضَى حَرارَته الجوفِية المُرتفعَة؛ بدَيمومَة عَطْرَدة نَسَق نظامِه السريع حَول ألسِنةِ قُرص الشمس، بمسافةٍ حَميمَة دَانيةٍ، تغبِطه بها، سَائر أندادِه: التوائم الأرضِية المُجاوِرة، وكأنّ قُربَ مَنزلة- عُطَارد- القلبية، مِثل: الشفقة، والعطف، والتحنان على الطفل المُدلّل في شِغافِ قلبَ أمِّه، الشمس الساطعة الحَنُون… ولَا شَك أنّ دِقّة بِناء أَمَارة، وطَبيعَة أَثَر طَبعة بَصمة المِعيار الربّاني، واضِحتين جَليتين، في دَيمُومة مَسلَك، ومَنهَج سِر دَيدن زَهو العطردَة الدائمة المُعتادَة؛ المُسيّرَة بسدَادِ حِكمةٍ إلهيةٍ بالغةٍ، تَقتضِي سِرّ دَوامِ الحِفاظِ على كُنههِ وتّوازُنِ سَرمَدية سِر بقائها؛ لدورةِ حَقبةٍ زمنيةٍ مَعلومةٍ، لَا يَعلم مَستور كُنهِها، ولَا يُدرك خَفيّ حَقيقتِها، إِلّا خَالق الكَون، ومُدبّر أحوال أُمُور سَائر مَخلوقاته الجمّة…!
وتسمُو رَكائز عِماد العودَة الذاتية القائدة إلى صِناعة قَوَام نصل سَويّة النفس البشريّة المُحترمَة، وتُتمثّل مُحصِّلتها السامية في صِناعة أرصِدة مِن الأفكارِ الرائدةِ الذكِيةِ، ونَبذ أنماطِ نقيضاتِها الهواجِس السلبِية الهدّامة؛ وبناء اواصِر الثقة المِثلى، وتعزِيزها، برِيادَة وقِيادَة ذاتيتين مِن صَفوة ذُرَى عُصارَات العقل الواعي… وكلّ تلك المكاسِب والمنافِع، تقتضِي وتستوجِب لِزامًا، إعمال عَقلٍ رَصينٍ؛ وإشغالِ فِكرٍ رَزينٍ؛ مُتآزِرين مُترافِقين، في مَتن صُلب انسيابية جَوف قارِبٍ واحدٍ… ويَتصدّر تهذبًا، صَنوِ اعتدالِ وشَخُوص سَويةِ النفس البشرية المبجّلة، كمَكانةِ الصلاة المَكتُوبة، بين سَائر العبادات الإلهية… (إن قُبِلَت، قُبِلَ مَا سِواهَا، وإِنْ رُدّت، رُدّ مَا سِوَاهَا).
وفِي سِياق الحَدِيث الودّي المُتسلسل عَن نَهحِ سَوية النفس واستقامتِها، لَا يَفوتنِي، ذِكر مَفهوم “الصِّحةُ النَّفسِيةُ” وهو بِساط حام واق، يحفظ سَلامة مقام الفرد مِن أمراضٍ وعِلَلٍ نفسيةٍ شَتّى، تشِيعُ، ويذيعُ مُقلِق ومُزعِج آثارِها السلبية بين الأفراد والأزواج؛ نتيجة باقات مِن ضُغوط، وأَنماط، وأَساليب، ومُتغيرات، ومُتطلبات الحياة المُعاصِرة؛ ومَا تَحوِيه، في حِجر أكنافِها المُتنامِية، مِن حُزمٍ مِن أحلكِ وأظلمِ الإخفاقات؛ ورِزمٍ مُماثلةٍ، مِن أقسَى وأمضَى التحدّيات العصرِية؛ وسَيلِ هادرِ مِن تراكُمات نَوعِية مُتنامِية مِن نِتاج “مُتلازِمة” هُطول أنواع، ونزول أنماط مَن شدّة وَطأَة الضغوطَات الإجتماعية، والمعاناة النفسية؛ والتي غالبًا، مَا ترمِي بثُثقِلها القاسِي على كاهِل الفرد؛ وتتربّع كُرهًا، بأحمَالِها العِظام، في خَنقِ وتَضييقِ أنفاس الفرد نَفسَيًا واجتماعِيًا، ومَعاشًا… ؛ لِقلّةِ الحِيلَة، وضَعفِ الوُسِيلة؛ لمُجابهتها- وَجهًا لوجهٍ- وسُرعة التغلّب والانتصار عليها، أو وأدِها في حِينها، بضربةٍ مُسدّدةٍ قاضيةٍ… ولعلّ مِن بَين أعراضِها المُوجِعة شُيوعًا: القَلق والاكتِئاب، المَاثِلان المُحتاجَان، بحزمٍ وعزم، إلى طَرْقِ أبواب الصحة النفسية، في حَالات شِدّة تفاقمِهما، واستحواذِهما، وتغلغلِهما في ذِهن ونَفسية الفرد، قَلبًا وقَالبًا… وهُنا تبرُز الحاجةُ المُلحّةُ إلى اللّجوء إلى البحث عَن تشخِيصٍِ، وتدخّلِ “الطب النفسي” المُتاح في أوساط المُجتمع” والخُضوع لأساليب المُتابعة والعِلاج… حتّى لَاتَسرِي وتَستشرِي أعراض غَلَبَة تلك المشاكِل وسَيطَرة المُسبّبات “المرضِية” وبالتالي، المَيل القَسرِي إلى إحداث مَوجاتٍ مِن سُوء التكيّف، وضيق المِزاج، ورُبّما يَتطوّر الأمر سَلبًا إلى أزماتٍ نفسيةٍ، تصبّ برمّتها، في عُمق مَفاصِل الاستقرار النفسي… ويُمكن حَصر مَنابعها الرئيسة الراهنة، لتشمل النواحي: الدراسية، ومثلها الزواجية، والوظيفية، والإجتماعية… حَيث إنّ التوازن الطبيعي الأمثل، بين أصُول ركائز تلك القوائم الأربع الأساس، يقود إلى وِحدةٍ تكامليةٍ؛ تُجسّد مَهلًا، مَردُود سَلامَة وعَافيَة آثارِها الإيجابية في تكامُلِ أدبِ ولِياقةِ مُقوّمات الصحةِ النفيسةِ؛ وتحفظُ للفردِ الفطِن صَفاءَ، ونَقاءَ وكَفاءةَ دَاخلتةِ، وتَمام وكَمال استقامتة النفسيةِ، وَسَط نَسقٍ مِن المنظومةِ الاجتماعيةِ القائمةِ!
ويَنضوِي تحت مِظلّة الصناعة النفسية الشامِلة، وصِيانة صِحّتها، مَفهِوم “السَّلَامةُ النفسِيةُ” العامة، وتَعنِي التصالُح مَع سَوية النفس، وفَهم طبيعتِها، ومُحاسبةِ شططِها؛ والتعاملِ الأمثَلِ مَع مَا يُقابلها ويَطرأ عليها مِن أعراضٍ مُؤقّتةٍ، تنغّص صَفو حياة الفرد الغافل عَن بُلُوغ وإدراك أصُول سَلامتِة النفسية، وخِلافًا لذلك، يصِل بنيلِها الفرد المُثقّف الواعي إلى مَدارِج ومَراقِي الصلَاح والكمَال؛ ويَسمو بها عُلوًا إلى أسْنِمَةِ، ومَجالِسِ أُنْسِ “النفس اللوّامة” لتحقيق أعلَى نُسق مَظاهر إيحابية مَحسوسَة مِن أسَاسَاتِ اللّياقة وأُصولِ السلامة، ومُكتسَباتِ آفاق السعادة، وغَنائمِ النعيمِ النفسي المُستدَام… في مَعرِض مُحيط أَسمَى وأنمَى مُصالحَةٍ تَوافُقِيةٍ وِدّيةٍ، وسط مَنظومَةٍ مُثلى مِن مِنح القَبول الذاتي؛ ومَباهِج الرضَا الوِجداني؛ وبُنود خَلّة الإحترام المُتبادَل، في وسط مَواكِب مَيدان البيئة الاجتماعية الشامِلة!… وهُنا أذكُر بإعجابٍ، مَطلع القصيدة العصماء للإِمام علي بن أبي طالب (عليه السلام):
صُنِ النَّفْسَ وَاحْمِلْهَا على مَايُزِنُها… تَعِشْ سَالِمًا والقَوْلُ فِيكَ جَمِيلُ*
* موسوعة روائع الحكمة والأقوال الخالدة ص 179