في سنواتِ العمل، كنت مع صديقٍ لي نقطع الطريق بين الظهران والقطيف بعد يومٍ طويل بحفظ قصائد أبو فراس الحمداني. أهيب بالقارئ العزيز إن كان محبًّا للأدب أن يقرأ قصائد هذا الشاعر المبدع وخصوصًا قصيدته الميمية ومطلعها:
الدينُ مُختَرَمٌ وَالحَقُّ مُهتَضَمُ .. وَفَيءُ آلِ رَسولِ اللَهِ مُقتَسَمُ
لا يعتقد القارئ العزيز أنني داعية غناءٍ وطرب، وإنما هي مقارنة بين أذواق وأزمنة! في بدايات التلفاز بالأبيض والأسود لم يكن في بيتنا تلفاز، فكنتُ أسترق بعض النظرات في سوق تاروت، في المقهى آنذاك، إلى امرأة اسمها أم كلثوم، تغني شعرًا جميلًا، من ذلك الشعر:
أَراكَ عَصِيَّ الدَمعِ شيمَتُكَ الصَبرُ .. أَما لِلهَوى نَهيٌ عَلَيكَ وَلا أَمرُ
بَلى أَنا مُشتاقٌ وَعِندِيَ لَوعَةٌ .. وَلَكِنَّ مِثلي لا يُذاعُ لَهُ سِرُّ
إِذا اللَيلُ أَضواني بَسَطتُ يَدَ الهَوى .. وَأَذلَلتُ دَمعاً مِن خَلائِقِهِ الكِبرُ
فيما بعد قرأت ديوانَ أبو فراس الحمداني، وفيه القصيدة السابق ذكرها، كاملةً ومن أروع وأجمل ما قاله الشعراء.
لولا اختلاف الأذواق لبارت السلع:
تعشّقتها شمطاءَ شابَ وليدها .. وللنّاسِ فيما يعشقون مذاهب
لا أعرف كيف يكون هذا نوعًا من الطرب حين لا تفهم الكلمة ولا تعرف معناها؟! لكن معايير القبح والجمال تتباين، فهذا الحبّ يجمع الأضداد، ترى زوجًا ليس فيه من الوسامةِ ما يُمدح، تختاره امرأةٌ أجمل ما خلق الله، ليس فيها ما يذم. وامرأة زوجها أجمل وأوسم منها، وقد شاهدنا ذلك رأي العين!
أما الذوق المشوه الممقوت حين يهوى الرجلُ رجلًا ويقترن به، وتهوى امرأةٌ امرأةً مثلها وتستغني بها عن زوج! هنا اختلفت العقولُ وبارت، لا الأذواق. استغنى قومُ لوط الرجالُ بالرجال، ففعلت النساء كما فعل رجالهنّ.
قل لي بربك: أين الكلمات الحديثة غير المفهومة، من شعر الشريف الرضي – رحمه الله – الذي غناه المغنون ومنه؟
يا ظَبيَةَ البانِ تَرعى في خَمائِلِهِ .. لِيَهنَكِ اليَومَ أَنَّ القَلبَ مَرعاكِ
الماءُ عِندَكِ مَبذولٌ لِشارِبِهِ .. وَلَيسَ يُرويكِ إِلّا مَدمَعي الباكي
هَبَّت لَنا مِن رِياحِ الغَورِ رائِحَةٌ .. بَعدَ الرُقادِ عَرَفناها بِرَيّاكِ
ثُمَّ اِنثَنَينا إِذا ما هَزَّنا طَرَبٌ .. عَلى الرِحالِ تَعَلَّلنا بِذِكراكِ
هذا الشاعر العالم الرقيق – الرضي – هو أيضًا شاعر الحزن العميق في رثاء جده الإمام الحسين عليه السلام، ومما قال قصيدته الذائعة الذكر، قالها وهو في الحائر الحسيني، ومطلعها: كَربَلا لا زِلتِ كَرباً وَبَلا .. ما لَقي عِندَكِ آلُ المُصطَفى
حقًا، وللناس فيما يعشقون مذاهب!