وكأن حياتهم تمتد!

كانت البداية مرعبة حين قررت التقاعد مبكرًا قبل أوانه بعشر سنوات -وقد لمّحت لذلك في مقال سابق هنا- رغم أني لست من مؤيدي هكذا التقاعد القاتل بالرغم من خوضي التجربة التي صارت حقيقة. مرعبةٌ قبل القرار والذي أخذ مني وقتًا، وكأنني عزمت على الانتحار -والعياذ بالله- ومرعبةٌ بعدما حزمت ما تراكم في الذاكرة من علاقات وتقلبات، وما تجمع في وعلي وحول مكتبي بشركة الكهرباء لثلاثة عقود لم أحقق فيها طموحًا وظيفيًا معتبرًا.

خرجت وكأنني لا أهتدي لطريق رغم الجهد الذي هيأت فيه نفسي من خلاله للواقع الجديد، حتى إن مشواري للمنزل أخذ مني وقتًا كأنه الدهر، تلاطمت خلاله الأفكار بين وجل وأمل.

لم أكن أعلم أنها اللحظة التي سوف أعيش فيها الحياة بمعناها الحقيقي وفي مرحلة أخرى منها، وإذ بجذوة جمال آخر من جمال الحياة تشتعل بفضل الله تعالى وهي مما منَّ علينا بها لنعيشها، والموفق هو من يغتنمها، ويحصد نفعها دنيا وآخرة.

أجزم قاطعًا بأن لكل مرحلة عمرية طورًا مختلفًا يتناسب مع المكان والزمان والعقلية والظروف المحيطة بتقلباتها وناسها؛ حيث يتكيف معها المرء ويتشكل كيفما أراد هو أو أرادت ظروفه، بحيث تشعره بمعنى حياته ساعة بساعة، وكيف يكون إنسانًا حيًا فاعلًا عاملًا، ومخلوقًا ذا قيمة إنسانية جبارة وطاقة متوهجة.

فهو الذي يقرر أن يرتقي، أو يستكين مستسلمًا منزويًا منطويًا و منكفئا، أو ينطلق بعد أن – يفلتر ويفرمت – حياته وينقيها من شوائبها، ويتكيف بالشكل الذي يتماهى مع مرحلته العمرية ومكانته وإمكانياته وملكاته. يقيّم ويصحح ويختار، ويطرد ويجب ما لا يتوافق معه من بعض المسلّمات المتراكمة، ويصحو من بعض الغفلات والقناعات بالأشياء والمحيط الذي حان ولا يناسب اللحظة، وأن يواكب الحاضر بما يحمل ليرى أنه كشف عالمًا آخر، عالمًا يتعرف فيه على وجه جديد، ووجوه أخرى، وعلاقات أخرى تمتد بامتداد التماهي والتوافق والانطلاق، يستغني عن آخرين، ويحافظ على البعض الذين ارتبط بهم بصدق ومحبة ورغبة، واشتغل على ما كان يؤجله ليظهره كشخص آخر تتفجر فيه طاقات كامنة؛ ما كان يظهرها بسبب انشغالاته، أو مسلمات ما عاد لها قيمة في مرحلته العمرية الجديدة.

فالإنسان يكتشف تلقائيًا أنه لم يعد هو من جهة بعينها وعليه أن يتخذ قرارات حاسمة متوافقة مع حاجاته الآنية، وبما يتوافق مع الانفجار الذي يشعله جهة ما يكتنزه من خبرات وقدرات وملكات إن كان هو فعلًا قد عمل على ذلك في مراحله العمرية السابقة، وبما ينفع منها سواء علمية أو ذاتية أو ما يحيط به من قرابات وعلاقات ذات قيمة نوعية وليست تلك التي تعكر صفو حياته وتقلق راحته.

هنا سيجد الإنسان نفسه قد أصبح شخصًا آخر، ووليدًا مختلفًا للتو دخل حياة رائعة ما كان يحلم بها، ولا نعني أكيدًا أنه سوف يمقت كل ما مضى من عمره الذي سيظل معه، يحتفظ ببعضه ويكيف بعضه، ويستغني عن بعضه متى ما أراد، لأنه هو هو بشحمه ولحمه وكيانه، إنما فقط أبدل ثيابه بثياب أنصع وأقوم، تتناسب مع زمكانه الذي يعيشه ويعيش فيه.

أما أن يبقى المرء على ما هو عليه من العادات والمسلمات والسلبيات والقناعات، يأكل ويشرب وينام ويصحو لا لشيء سوى انتطار الغياب الأزلي، ليترك الحياة لمن أحيوها، والأرض لمن عمروها بالجهد والعمل وصارت لهم بصمات منقوشة على كل جدار، وأسماء خطت في كل حارة وشارع، فلا يفنون ولا يموتون وكأن حياتهم تمتد، وإن طوت الأرض أجسادهم.



error: المحتوي محمي