أمي من فريق الأطرش (29)

موسيقى الحمير نهيق صدى يتردد بين جنبات الدروب والحقول، يسمع عن بعد وكل من به صمم، ماذا عن نهيق حمارين يتناغمان جوابًا في وقت واحد، ما حال الأذن القريبة منهما، وكيف الوضع لو نهق ثلاثة! أي سمع سيتحملها، ومتى ينهق الجحش نهقته الأولى ليواصل مسيرة أصوات أسلافه المنكرة، حناجر تطلق ذبذبات تصل لمسافة 3 كم، أي قوة لهكذا عظمتين التي تسمى بالنواهق، توقظ النائم كأنها صافرة إنذار، ترج الأبدان، تهز الأجسام تخترق الجدران، طبقات أقوى من مكبرات الصوت “المايكروفون”.

اختلفت أسباب النهيق بين علامة مودة لصاحبها أو طلب التزاوج من بني جنسه، وليس انتهاء بمرور شيطان، وقد أرجع لحاجة الناهق الماسة للماء والطعام، وكذا في حالة الشبع، وحسب المثل الشعبي: “إذا شبع الحمار نهق” تعبيرًا عن حالة الانتشاء والشعور بالرضا.

نهقات ونهيق ضوضاء وضجيج، تظل هذه النغمات جزءًا من أجراس الطبيعة، بعض النهيق بمثابة إعلان لمحطة الوصول.

يتبع صاحب الصوت المجلجل سيده أينما ذهب وحل، يجر حمولات فوق طاقته، دون تأفف ولا تذمر، حتى أطلق عليه اسم “أبي صابر”، هل بالفعل يتسم بالصبر حقًا، أم تعتريه لحظات غضب وشطح وجنون؟
من المسلم به أن الحمار لا يختلف عن أي كائن حي يدب على الأرض يحمل تباينًا في السلوك واختلالًا في الطباع.

تتناثر حكايات درامية في ربوع فريق الأطرش حول تواجد كائن مألوف في كل بيت ومزرعة، لم يكن ضيفًا عابرًا يباع ويشترى بل شكل جزءًا من أنفاس البيئة، نفس مجندة للخدمة طوعًا، لكن خلف الصورة يكمن ردح ونهيق مخيف، عكس ما هو متوقع من كائن يظن أنه دائمًا مسالم وأليف.

يملك خال والدتي حجي عبد الله بن مهدي آل زرع حمارًا مشهورًا يسمى “أبو زگيگه” يشد عليه الگاري متنقلًا بين البحر والزرع، وعلى متنه يجر حمولة الگت والحشائش لبيعها في سوق القطيف، ارتحال شبه يومي، وعند العودة لا يسمع إلا خطوات الحوافر بقطع مسافة تقدر بـ “12 كم” ذهابًا وإيابًا، وما إن يصل منعطف الدرب بين نخلي “بيودة” و”الخييس” الساكنين فيهما عائلتا حجي رضي المبشر ويوسف الشاووش -شرق جنوب بريد تاروت- بداية منازل فريق الأطرش- إلا ويسمع الأهالي نهقة الحمار العالية، ويقولون من كثرة ما اعتادوا على السماع: “داكو جاء أبو زگيگه” يعرفونه تحديدًا ولا ينسبون الصوت لحمار آخر، يطلق نهقته المألوفة وإن اختلفت ساعات النهار، صوت تنبيه بإعلان الوصول لمرتعه، يتصف هذا الحمار دون غيره بحاسة عجيبة، فهناك حمير يعبرون نفس الدرب جيئة وذهابًا ليلًا ونهارًا ولا ينهقون حتى طوال المشوار إلا قليلًا، لماذا هذا الحمار ينهق عند نقطة معروفة وتحديدًا عند العودة؟ هل هو يستقرئ المكان ويقدر المسافة! .
وأي مسافة قطعها حمار هارب من زريبة عائلة آل سعيد بالسنابس، والناس نيام، هام على وجهه طوال الليل عبر الدروب المقفرة وعند الفجر قادته رجلاه على مشارف مزارع فريق الأطرش، ومن نخل إلى آخر، حتى حط رحله بين نخيلات قصية داخل معامرة “الصلخ” القائم عليها زوج جدتي أبو جاسم آل سالم، فبينما خالتي زليخة آل هبوب وأختها الصغرى غير الشقيقة زهراء سالم تتجولان عند أطراف المعامرة، وهمتا بالتوجه نحو “الفدى” وهو الحيز المفتوح دون نبتة أو زرع، مفروش على أرضيته بساط من خوص ومنثور عليه التمر لتجففه الشمس أكثر وأكثر، بينما الأختان متجهتان لأخذ “فردات من التمر” لفطور الصباح لقيهما الفتى رضا نجم آل حبيب وهو خارج من معامرة “أبو لعظامه” وحذرهما من الذهاب “للفداء” قائلًا لهن: “شفت حمار مستوحش توه دخل زريبتكم لا تروحوا لا يطلع ليكم، أشوه ما شافني إنچان رحت فيها”، ردت عليه زليخة: “داكو مناك ما بيشوفنا”، وحين أقبلتا على أرضية “الفداء” إلا بخروج الحمار من الزريبة، بمجرد لمحهما قصدهما مشيًا، وهو فاتح فمه عن آخره مثل أسد جائع، فر سريعًا، وركض خلفهما، الطفلة زهراء ذات السبع سنوات دخلت مربعة مسيجة من السعف تدعى “الحوض” وهو مكان لاستحمام بعض النساء، ماؤها قادم من “عين لفليه” فدخل وراؤها لكنها اختبأت في منطقة عمياء عن أعين الحمار، تكومت عند زاوية ضيقة بين جذع النخلة وبين جدار السعف فلم يلحظها فخرج حالًا،
في المقابل زليخة قفزت مجرى الماء “السمط” ودخلت نخل لفلية وهي تصرخ مذعورة “لحقوا علينا يا اجاويد لحمار بياكلنا”، صرخة مدوية تردد صداها في ربوع البساتين أفزعت علي بن أحمد “المحاسنة” وإخوانه القائمين على “نخل لفلية” وأتوا جميعًا ومعهم رجال آل حبيب قادمين من نخلهم المسمى “معيط” التفوا حول الحمار متأهبين لحصاره، أنزلوه ضربًا بالعصي والحطب على كافة أنحاء جسده باستثناء رأسه حتى لا يموت، وهو يرفس ويركل كل من يقترب منه، ضربات متواصلة على بدنه الصلب كأنه حصان من ضخامته، سقط عدة مرات أرضًا، ولم يمهلوه لالتقاط أنفاسه، قادوه ضربًا قاسيًا بإخراجه من محيط مزارع الفريق وتركوه بعيدًا عند حدود “جبلة العگير”، حتى عثر عليه رجل ممن يبحثون عن الحمار، قاده وهو منهار بالكاد يمشي من شدة الضرب حتى أوصله لزريبة عائلة آل سعيد في سنابس.

برغم مرور أكثر من 57 سنة على هذا المشهد المرعب، انتاب خالتي زليخة شيء من الخوف وهي تسرد الحكاية، لحظئذ ارتعد جسمها “گفة عافيتي من اذكر هالحمار الملعون وهو يركض ورانا، واحنا نتصارخ، كان بياكلنا”، خوف أدخلها مجددًا وكأن الحادثة للتو وقعت ثم استكملت: “الله يرحم خالك علي هبوب -حي لو ميت – كان الأول يروح العصر سوق تاروت يبيع “الگت” وجاؤه رجل من عائلة ٱل سعيد ليشتري منه ربطات الگت، قال خالك له: اليوم حماركم هديتوه وما تدروا عنه وين راح، ترى وصل فريق الأطرش ولحق خواتي عند معامرة لفلية، لو ما تفازعوا له لرجال إنچان گضى عليهم، قالوا له: هذا منهد من عدنا من الليل ودورنا عليه في كل مكان، تالي جابه لينا رجال ودخله زربيتنا، اشوه ما صاب خواتك شيء، الحمد لله سلامتهم، سامحنا يا ولد حجي محمد هبوب”.

أغمضت خالتي عينيها وأخذت نفسًا عميقًا وعقبت “ويش أقول لك عن هالحمار مو حمار، هذا جمل، هالطول رفعه -تشير بيديها وهي واقفة-، أطول من رجال، والله جتني هيبه من أتذكر الحمير”. تقهقه خالتي طويلًا وتبتسم وتحمد الله على أنها لم تكن ضحية حمار مستوحش وهي لم تزل في شهر العسل.

تمور ذاكرتها بمشاهد مرعبة عن الحمير، وقبل أن تستكمل قاطعتها باستفسار المستدرج “يا خالة: أتذكر الحمير وسط سوق تاروت وعلى ظهورهم الگواري كانوا ما يسووا شيء واقفين وجاهزين للتحميل، وكل يوم أشوف حمير رايحه وحمير جايه محملين بأغراض واوادم، حركة مستمرة في كل اتجاه من مناطق الجزيرة، وبعد يعبروا بهم دروب الديرة الضيقة، حمير تابعة لعائلة ٱل زمزم وعون المشيقري وحجي معتوق الخياط وأخوته وغير اللي في المزارع، يمروا علينا مرور الكرام، ما شفت حمار واحد لحق احد”! ترد على تساؤلي: “صحيح الحمير اليفين والناس الأول ما تستغني عنهم، وشفتهم وشفناهم ما يسووا شيء، لكن إذا استوحشوا، لا تقرب صوبهم نار الله الموقدة”!.

تتأوه خالتي بسرد قصص الحمير التي مسرحها ربوع فريق الأطرش، مشاهد تفوق التصور،
ومن يتصور أن حمارًا يطعمه صاحبه كل يوم ويعتني به ويحافظ على سلامته من راحة وعلف واستحمام، تأتيه لحظة غضب دون أدنى سبب، هذا ما فعله بالطفل حسن آل بدر حين قدم والده الحاج علي بن حسن آل بدر على متن ظهر حماره محملًا بلوازم البيت بين العصر والمغرب، وعند عتبة باب العشيش وقف حسن ينظر أباه وهو يرفع “الگاري” عن ظهر الحمار ثم نزع البردعة، وكالعادة يعرف الحيوان دربه نحو الزريبة الملاصقة للبيت يفصلهما “زرنوگ” ضيق، تحرك الطفل باتجاه والده ليأخذ منه كيس (الكماج) فتقابل وجهًا لوجه مع الحمار، فجأة أرخى رقبته للأسفل والتقطه من الأرض، غارسًا فكه بفخذه الأيسر، قبضه بأسنانه ورفعه للأعلى وأخذ يدور بالطفل مثل راقص في حلقة زار، تشبه هيام الحمير حال دورانهم على أنفسهم بـ”ظروف” التمر الخاوية إلا من بقايا دبس، صرخ حسن صرخة مدوية جلبت كل من داخل البيت وتعالى الصريخ والزعيق، ضربات متتالية على جسد الحمار وبنفضة غضب من الحاج علي آل بدر ساحبًا رقبة الحمار للأسفل حينها لفظ الجسد الغض مرتطمًا بالأرض والدماء تسيل، أخذ الطفل حسن لعيادة الدكتور “بن نصار” في القطيف وطوال الدرب شبه غائب عن الوعي، حسب أهله أن حياته في خطر،
لكن العناية الإلهية أحاطت به وكتبت له عمرًا جديدًا.

بعد أيام من تلقي العلاجات المستمرة مضادات والمسكنات وتغيير الضمادات استقرت حالته حينها أشار رجل من عنك على والد حسن بأن يأخذ من ذيل حماره بضعة شعيرات ويحرقها لتتحول إلى رماد، وتوضع على الجرح فتسارع الالتئام شيئًا فشيئًا، لم تفارق تلك الواقعة الأليمة ذاكرة حسن إلى اليوم والتي حدثت له حين كان عمره لم يتجاوز أربع سنوات كان ذلك عام 1973م.

يجمع الفلاحون بقولهم: “عندما تقدم للحمار الماء والطعام وقمت بالاعتناء به فقد ملكته”، بمعنى مطيعًا مسالمًا لسيده في كل وقت، لكن الحمار الملازم لعلي آل بدر نسي كل الدلال، حيث يقول الشاب حسن آل بدر نقلًا عن أبيه “16 سنة عندي هالحمار لا هو مرض ولا أنا مرضت، كاف عاف، بس مرة وحدة طلع عن طوره وعض ولدي حسن ويش اللي جره له ويش صار ما أدري والله”،
هي لحظة توتر دون أدنى سبب، أينطبق عليه المثل “سمن كلبك يأكلك”، هي مساحة انفعالية، لؤم أم غدر، جور أم انتقام، حالة قد يصعب تفسيرها، لكن سلوك الحيوان متقلب لا تدري متى يثور، هل ثمة شيء أوخزه، أوجعه، فيندفع بعدوانية مرعبة وبشراسة مخيفة غير متوقعة، توجهت بالسؤال للأخ حسن آل بدر واصفًا لحظة خروج الحمار عن طوره المعتاد “الحمير أنواع وهذا لحمار اللي عضني نسميه انزر، يعني يعض يرفس، لكن لنزر حق شغل، مطلوب ومرغوب، لأن جسمه قوي قاسي يتحمل الأعمال الشاقة وتقدر تشد عليه حمل واجد، بس إذا ضربت افيوزه وخر عنه”، قد يقول قائل لا غرابة في ذلك إذا كان العاقل لا أمان له يثور أحيانًا لأتفه الأسباب فكيف بغير العاقل.



error: المحتوي محمي