ختام الحقبة الذهبية

العينُ المكحّلة

كما أتذكر في أيام مجيء الشيخ قاسم القاسم في حيّ السيدة زينب (ع)، وكانت هذه بداية طلب العلم والذهاب مدينة قم، وكان قبل ذهابه إلى عشّ آل محمد (ص) التقيت بالشيخ الشاعر الكبير *عبدالكريم الزرع؛* وذهبنا معًا إلى الشيخ *قاسم القاسم،* وجلسنا نحن الثلاثة نخوض في حديث الشعر والشعراء، فاقترحنا أن يكتب كلّ واحدٍ منّا في يوم أو يومين قصيدة بموضوع الفراق؛ لأننا سنفترق عن بعضنا البعض ونذهب إلى بلدان ثلاثة، وستتوزع أجسامنا، وستقترب أجزاء قلبنا، وبعدها ألقى الجميع قصيدة مؤثّرة تعكس مشاعر القلب المتأججة نتيجة افتراقنا، وكانت قصيدتي بعنوان *(شَـوقٌ)*:
قَاسِمَانِي الشَّوْقَ وَالأَمَلَا
                وَخُذَا مِنْ نَاظِرِي شُعَلَا
فَالرُّؤَى هَيْمَانَةٌ غَرِقَتْ
               فِي فُؤَادٍ سَالَ حِينَ سَلَا
والْتَظَى فِي نَاظِرِي كَمَدِي
             وَارْتَمِي فِي خَاطِرِي جَبَلَا
وَإِذَا بِالدَّهْرِ فَوْقَ يَدِي
                  كَادَ جَوْرًا يَذْبَحُ الأَمَلَا
هَا هِيَ الأَيَّامُ تَحْمِلُنِي
              وَالْهَوَى مِنْ صَابِهَا انْتَهَلَا
كُنْتُمَا أُغْرُودَةً صَدَحَتْ
                       فَانْثَنَتْ رَيَّانَةً قُبَلَا
وَأَنَا قَلْبٌ نَمَـا.. فَشَذَا
            فَالْتَهَى.. فَارْتَاعَ.. فَاشْتَعَلَا
وَأَنَا عَيْنٌ مُكَحَّلَةٌ
                 سَرَقَتْ أَقْدَارَهَا الْكُحُلَا
وَأَنَا الظَّمْآنُ حِينَ أَرَى
                      سَلْسَبِيلًا بَارِدًا زَلَلَا
قَاسِمَانِي لَوْعَتِي، فَلَقَدْ
                جُزْتُ أَقْصَاهَا فَلَا تَسَلَا
وَاسْقِيَا قَلْبِي حَشَاشَتَهُ
                        وَأَعِيدَا جَمْرَهُ بَلَلَا
                                       1412ﻫ
بين الجامعة والحوزة
عندما كنّا في حوزة المرتضى (ع)، في حيّ السيدة زينب (ع)، في منطقة الحجّيرة، كانت الحوزة تُدرّس طلاب العلم، ولكن في فترة الصيف يعود بعض الطلاب الى بلادهم، والبعض الآخر يبقى.
والحوزة تقدّم لغة مميزة، وهي في فترة الصيف تُدرس الطلاب الجامعيين وتقدّم لهم بعض المحاضرات والدروس الحوزوية؛ تثري بها معلوماتهم الثقافية الدينية وغيرها الكثير.
وممّا كانت تقدّمه الحوزة هو إقامة بعض الفعاليات الجميلة، ومن ضمنها كانت رحلة تضمّ طلاب العلم والطلاب الجامعيين في آخر الفترة الصيفية، وفائدتها فتح التلاقح بين الثقافة الجامعة وثقافة الحوزة.
ومن الطرائف التي كانت في الرحلة أنه أقيمت مباراة كرة قدم بين طلاب العلم والطلاب الجامعيين، والجميع كان يتوقع تفوق الطلاب الجامعيين؛ بسبب أنّهم لائقون رياضيًّا، وربما كانت الرياضة واحدة من المساقات الدراسية التي كانت مقرّرة عليهم. غير أنّ الواقع خالف جميع التوقعات، وانتصر فريق طلاب العلم على الطلاب الجامعيين بنتيجة خمسة أهداف مقابل ثلاثة، سجّلت منها ثلاثة أهداف.
حفل التتويج
في آواخر أيامنا في سورية اتفقت مع الشيخ حسن الجنبي أن نتعمّم، فـاستشرنا بعض الأصدقاء الذين استحسنوا الفكرة، فدعونا *السيّد عبدالله الغريفي* حفظه الله (وهو من علماء البحرين ومن تلامذة السيّد الشهيد الصدر (ره)) لمجلسنا الخاص وإقامة مولد خفيف ليشرفنا بتعميمنا، وبهذا الحدث كانت آخر أيام دراستنا في سورية.
المستبصرون
كما أتذكر قرية في الشمال حيث شددنا إليها الرحال، وكان فيها أحد طلاب العلم السّادة، إمام جماعة، فصلّينا خلفه وسلّمنا عليه بتواضع وأخلاق عالية. ثم سألنا أحد رجال القرية عمّا إذا كانوا  مستبصرين، فأفادنا بأنهم كذلك منذ سنوات قليلة، وصار عدد عددهم، حتى وقت سؤالنا، أربعين شخصًا.
آخر المطاف
في آخر أيام وجودنا في سورية الجميلة الزرقاء المتلألئة في ورود الطبيعة، وذكرياتنا هي طفولة القلب من البراءة، ورجولة العقل في اصطياد العلم والمعرفة.
حتى إنّني أتذكر يوم ذهابنا إلى شلّال عامر بالسيّاح، ويوجد جسر بين الضفتين، وعلى الجسر طاولات طعام، فتغدّينا هناك، وما أجملها من لحظات حين تجمع بين فعلين في وقت واحد؛ تُسكت جوع بطنك، وتمتّع ناظريك بمشاهد الطبيعة الخلّابة التي تأسر القلوب وتسرّ الخواطر.
وهكذا نُسدل الستار على آخر ذكرياتنا في سورية حيث عشنا حقبة ذهبية جميلة تبقى ذكراها ما بقينا على قيد الحياة، نسعد برواية أحداثها لأولادنا وأصدقائنا ولكلّ من نجد عنده أذنًا مصغية، وتحياتنا.



error: المحتوي محمي