غفلة

بدأ الصباح يشقّ أنفاسه الجميلة، ساعاته الأولى ساكنة دون حركة حيث يُخيّم الهدوء على أرجاء الكون، وتظهر خيوط الشمس على استحياء مُطلّة من خلال الستائر الحريرية تحكي كلّ يومٍ آمالًا ينسجها الإنسان.
تنسج أيامنا حكايات جديدة، بعد ليل طويل من أيام الشتاء الباردة.

عقارب الساعة تشير إلى السابعة صباحًا يوم الجمعة، الذي تنتظره “مرام” بفارغ الصبر لتعوض ما فاتها بأيام عملها لتأخذ وطرها من النوم العميق، بينما كان زوجها “خالد” يعدّ يوم الجمعة إجازته المفتوحة للتنزه مع الأصدقاء في الصباح الباكر، ويقوم بزيارة الأهل وتأدية الواجبات الاجتماعية مساء. أمسك خالد بهاتفه وهو يشعر بثقل عينيه من شدة النعاس وقد قاربت السابعة والنصف، وإذا به يرمي ما عليه من أغطية وكأنه مدعو لحالة طارئة فقد تأخر الوقت والمشوار طويل حتى يصل لأصدقائه.

قد يكون فاته الكثير، هذا ما خطر بباله!
نهض مسرعًا وحمل معه ملابسه وإذا به يرى ابنه أمير ذا الثلاث سنوات، قد استيقظ ورفع رأسه والنعاس يغالبه، ابتسم في وجهه وأشار له بأن يعود للنوم مرة أخرى، وأنه سوف يأتي له بالحلوى التى يحبها.

بادله “أمير” بابتسامة الفرح وعاد وضع رأسه على وسادته في الوقت الذي كان والده يستعد للخروج مسرعًا، يرتدي ملابسه وكأنه يمارس رقصة على أنغام الموسيقى؛ رجل في بنطاله ويداه في أكمام قميصه حتى يستطيع اللحاق بأصدقائه.

خرج “خالد” على عجل دون أن تشعر زوجته “مرام” بأي حركة، وبينما كان أمير يحاول معاودة النوم كان إحساسه بالجوع يجبره على الاستيقاظ فنزل من سريره واقترب من أمه ووضع يده يهز كتفها يحاول أن يوقظها ويرفع خصلات شعرها بحنان عن وجهها قائلًا: ماما ماما، تحركت قليلاً وأجابته: نعم حبيبي اتركني أنام قليلاً.

طبع قبلة دافئة على خدها بمعاودة النوم مُجددًا فانقلبت على جنبها الآخر وعادت مرة أخرى لسباتها العميق.
ازداد شعور “أمير” بالجوع وقرر أن يعتمد على نفسه ويبحث عن بعض الطعام.
نظر إلى طاولة الطعام فلم يجد غير بعض الفاكهة التى لا يفضلها طفل في سنّه، ففتح الثلاجة ووجد ما يحبه فقد كان كأس الجبن في مقدمة رفوف الثلاجة. أمسكه بيديه الصغيرتين فشعر ببرودته الشديدة تثلج أنامله. فوقع من يده وتحول إلى حطام.

شعر بالخوف من توبيخ والدته، اعتلى صوته بالصراخ وكأنه يستغيث بأمه ويطلب منها العون. لكن خاب أمله ولم تستيقظ. فانصرف للعب بدراجته وأكل بعض البسكويت واصطدم بباب الشقة، وبفضول الأطفال حاول العبث بمقبض الباب ليتفاجأ بأنه غير مقفل، شعر بالفرح، فطالما حاول فتحه ولكنه دائمًا كان يفشل، لقد وجد “أمير ” الفرصة سانحة أمامه ليكتشف ما حوله دون مراقبة والديه.

خرج ونزل من السلم حتى وصل للدور الأرضي فكان الباب الرئيس للبيت مفتوحًا، شعر بما يرضي فضوله لأنّه أراد مكانًا أكثر اتساعًا فخرج بخطوات سريعة، ازداد شعوره بالفرح وأسرع الخُطا فوجد نفسه في الشارع وكأنه يراه لأول مرة، بدأ يتأمل الحياة، أخذ ينظر للسيارت المتوقفة على جانبي الشارع، ولفت انتباهه إحدى القطط التي كانت تختبىء تحت الأشجار بجانب منزله ترضع صغارها، نظر إليها ورأى أنها تشبه قطة خالته التي يلعب معها فاقترب منها وجلس بجانبها محاولًا لمس صغارها وقبل أن يمد يديه كانت مخالب القطة أسرع منه لتضربه على وجهه، صرخ أمير متألمًا لأنه لم يُدرك بعد أنّ القطط لا تفرق بين الأطفال الذين يداعبون صغارها وبين الكبار الذين يعبثون بالقطط في محاولة منهم لإيذائهم والتسلية بهم، امتزجت دموعه بالدماء تسيل على وجنتيه فازداد بكاؤه ماما ماما، ولكنه لم يجد أحدًا بجواره.

فكر في أن يعود للبيت لكن كانت نسمات الهواء الباردة قد سبقته وأغلقت الباب بقوة، وظل يصارع الألم والخوف وحيدًا في الطريق.
قارب الوقت الحادية عشرة صباحًا، قد اكتفت مرام من نومها وقبل أن تفتح عينها كانت تبحث عن هاتفها لتتفقد آخر المستجدات.
حينها شعرت بالهدوء يخيم على المكان رفعت رأسها تبحث عن أمير لكنها وجدت سريره خاليًا. نهضت فلم يكن يخطر ببالها ما رأت من فوضى في الصالة. وفتات البسكويت المتناثر هنا وهناك وكأس الجبن المكسور بقرب الثلاجة.

أصابتها الدهشة، فنادت أين أنت يا أمير دخلت تبحث عنه في كل مكان فلم تجده. فانتبهت إلى باب شقتها المفتوح أيقنت أن أمير بالخارج وصرخت بغضب كيف لم تغلق الباب يا خالد!
نزلت مسرعة لبيت العائلة فكانت تتوقع أن يكون أمير برفقتهم لكن عمتها أم زوجها كانت مشغولة بإعداد الطعام في المطبخ وهي تستمع إلى سورة الكهف المباركة، فسألتها بخجل والدموع تملأ عيونها: عمتي أين أمير؟! لقد استيقظت من النوم ولم أجده. تركت أم خالد ما تحمله بيديها وقد بدت علامات الفزع على وجهها قائلة ماذا تقولين؟ كيف يخرج طفلك وأنت نائمة؟.
قد يكون مع والده؟
اتصلي بخالد واسأليه قد يكون اصطحبه معه.
ردت عليها والغصة تكاد تقتلها:
أنت تعرفين ابنك جيدًا، من المستحيل أن يأخد أميرًا معه في نزهاته، المكان بعيد والوقت الذي يقضيه مع أصدقائه طويل جدًا لا يناسب أن يصحب طفلًا معه.

أجابتها أم خالد:
لا بد من إخباره، قد يمتلك خبرًا عن اختفاء ابنه.
انهارت مرام حزنًا وألمًا على ولدها وعجزت عن الحركة والصعود لتأتي بهاتفها.
فأمسكتها عمتها من يدها وأجلستها على أقرب مقعد وأعطتها بعض الماء لكنها لم تستطع ابتلاع أي قطرة.
ونهضت مسرعة تبحث عن أمير حول البيت لعله يكون خارجًا فلم تجد أحدًا وتنقلت بين أبواب شقق إخوة زوجها تسأل عنه فلم يجبها أحد بينما كانت عمتها تجري الاتصال بابنها وإخباره بما حدث.
فسمع حينها صوت مرام تصرخ بأعلى صوتها: إن أصاب ابني أي مكروه فأنت السبب، كيف تخرج وتترك الباب مفتوحًا؟
لم يرد بأي كلمة غير أنه ترك ما حوله وخرج مسرعًا دون أن يودع أصحابه بأي كلمة..
أحست مرام بحاجتها للمساعدة ومساندة أهلها في محنتها فهاتفت والدتها لعلها تشفي حرارة قلبها لكنها تفاجأت بسيل هائل من كلمات الغضب واللوم ووصفتها بالإهمال والغفلة.
أغلقت الهاتف وازداد بكاؤها. وخرجت من البيت لا تعرف في أي اتجاه تسير وأين تبحث عن طفلها.
بالرغم من أنه ليس لها علاقة بجيرانها لكنها حينها شعرت بحاجتها لهم فهم أقرب من أهلها في وقت الضرورة ودون تفكير وضعت إصبعها على زر جرس جيرانها لعل أحدهم رأى طفلها فكان الجواب بالنفي. لكنهم خلال دقائق قد امتلئ الطريق بوجودهم جميعًا فزعين لأي مساعدة.
وبعض النساء التفوا حولها لمساندتها والتخفيف عنها ببعض كلمات الأمل والدعاء بأن يكون بخير.

لقد وصل أخيرًا زوجها خالد، أصابه الذهول من رؤيته تجمع غفير بالقرب من بيتهم فأيقن أنه قد أصاب ابنه مكروه بسبب غفلته.
ترجل من سيارته ورأى إخوته ووالده يقفون بانتظاره.
وبدا عليه الخجل وقبل أن يتفوه بأي كلمة.
لقد رأى جميع علامات اللوم والعتاب ترسم ملامح والده وإخوته، أردف قائلًا:
إنني لم أقصد نسيان الباب مفتوحًا هذه أول مرة أغفل عن إغلاقه.
ليجيبه والده بألم: الاعتذار والندم لا يكفي إذا كانت نتيجة النسيان مصيبة فادحة.. ولكن اجلد سرج يا بني كي تحمل نفسك على خوض غمار البحث عن طفلك المسكين.
احتقن وجه خالد خجلًا من والده، وامتزجت مشاعره بين الندم والقلق ماذا يمكن أن يكون حينها فلذة كبده أمير؟؟.
اقترب منه أحد الجيران وطلب أن يرسل له صورة لابنه لتساعدهم في البحث عنه في قنوات التواصل الاجتماعي. بينما اتفق بقية الجيران على أن يشكلوا فريقًا للبحث عنه وتبليغ الجهات المعنية إذا طال بهم الأمد وعجزوا عن معرفة مكانه.

صدح صوت أذان الظهر في أرجاء المكان وتنفس أبو خالد الصعداء وهو يردد لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
رحب بجيرانه وشكرهم على وقوفهم معهم ومشاركتهم الوجدانية ودعاهم للدخول معه للبيت. لكنهم شكروه واعتذروا لتأدية الصلاة ولتكن فرصة للابتهال والدعاء بأن يحفظ الله ابنهم أميرًا ويعود سالمًا..

تفرّق الجيران جميعًا ودخل خالد مع والده إلى بيتهم الذي كان ممتلئًا ببعض جاراتهم، يواسين زوجته في محنتها، ولكنّهن نهضن جميعًا واستأذن للخروج، ليفسحن المجال للعائلة للقيام بشؤونهم العائلية.

دخلت عمّتها غرفتها لأداء صلاة الظهر ولحقها زوجها أبو خالد، بينما جلس خالد على المقعد المقابل لزوجته صامتًا، متصنّعًا الهدوء ورجلاه تهتزّان من شدّة توتره وقلقه.
لكنّ داخله يكاد كبركان يوشك على الانفجار حممًا ويقضي على الأخضر واليابس.

شعرت مرام بالخوف وبأنّها مقدمة على حرب ضروسٍ معه.
فنهضت من مكانها متّجهة لأن تصعد إلى شقتها قبل أن يرمي عليها حمم بركانه، لكنّه بادرها بالقول: أين ستهربين؟
هل ما زلتِ تشعرين بالنعاس وتكملين نومك.
حشرج صوتها بغصّة تكاد تقتلها قائلة: أعرف أنّك ستوجه اللوم لي وحدي! لماذا لا تحاسب نفسك؟ لو كنت فقط أغلقت الباب لما خرج من الشقّة، فأنت المسؤول الأول عن ضياعه.
ردّ عليها بصوت مرتفع: أنت أمّه والمسؤولة عن حمايته ككلّ الأمهات.

عشنا في بيوت مفتوحة الأبواب لكن لم تغفل والدتنا لحظات عن مراقبتنا وحمايتنا بالرغم من كثرة عددنا، لكنّك مقصّرة في القيام بمسؤولياتك ولا تستطيعين الاهتمام بطفل واحد.

خرجت عمّتها وعمّها من غرفتهما على إثر ارتفاع أصواتهما، ليردّ عليه والده: أنتما جميعًا مسؤولان عن تربية وحماية طفلكم.
ليرد عليه خالد بأنّها المرة الأولى التي غفل فيها عن إغلاق الباب.
فتردّ مرام: قد تكون الأولى بالنسبة لإهمالك في حقّ طفلنا، لكنّها ليست الأولى بالنسبة إليَّ!

رفعت خصلات شعرها عن جبينها ووجهت الكلام إلى عمّها قائلة: انظر هذه الندوب التي أحاول إخفاءها عن الجميع! إنّها بسبب غفلته وتهاونه في الالتزام بقوانين المرور.

لقد كاد أن يقتلني وأنا في الشهور الأخيرة من الحمل؛ بسبب انشغاله بهاتفه أثناء القيادة. انتبه في آخر لحظة قبل أن ندخل في شاحنة كانت تسير أمامنا، ولكن قدّر الله ولطف، كان الحادث خفيفًا؛ مما سبّب لي جرحًا عميقًا في جبيني وكدت أجهض في أمير حينها.
دُهش والداه بما أخبرتهما به.
ليحاول أن يصدّ هجومها قائلًا: إنك تتذكرين حادثًا مضى عليه أكثر من ثلاث سنوات.

وقبل أن تردّ عليه، وصلت أمّها وأخته ووالدها.
وقبل السلام قال والدها: إنّ أصواتكما وصلت لنهاية الطريق! لم أتوقع أن أسمع شجاركما وأنتما واقفين مكتوفي الأيدي وكأنّكما عاجزين عن البحث عن ابنكما.
وأنا تمنّيت أن يكون أمير بينكما.

كانت جنان، أخت مرام، منشغلة بتصفّح هاتفها.
هي تردّ عليهم: لقد انتشرت صورته بجميع برامج التواصل وصار حديث السّاعة.
كانت تتكلّم محاولة حبس دموعها عند رؤية صورته وبراءة قسمات وجهه وجماله.

شعرت مرام بأنّ عليها الصعود مع أهلها إلى شقّتها. كانت تتمنّى أن تحظى بحضن أمّها أو أختها، لكنّ نظرات العتب واللوم تكاد تقتلها.
عندما دخلوا معها شقّتها كان المكان يعمّ بالفوضى، عندها استاء والدها لإهمالها.

بادرت جنان بتنظيف المكان وانحدرت دموعها وهي تلملم ألعاب أمير وتضعها في الزاوية الخاصة بها ووالدها يبدو عليه القلق وهو يردّد: لا حول ولا قوة إلّا بالله العليّ العظيم.
إنّني متعجب كيف تهنؤون بالجلوس وأنتم تجهلون مصير ابنكما.

وقف وهو ينظر إلى زوجته بنظراته الحادة وكأنه تذكر شيئًا مؤلمًا، قائلًا: إننا مع الأسف نستهين بأفعالنا وغفلتنا ونقدّم الأعذار التي لا تقدّم ولا تؤخر إذا وقعت الكارثة.

لملمت أمّ مرام نفسها وحاولت أن تغيّر مجرى حديثه قائلة: ما رأيكم أن نخرج جميعًا للبحث عنه؟ ربما يكون نائمًا في أحد الأماكن القريبة من هنا.
ووجهت سؤالها إلى مرام قائلة: هل بحثوا عنه في الحديقة؟
ربما ذهب ليلعب هناك.

ليردّ عليها زوجها ببعض الانفعال: هل يمكن لطفل ذي ثلاث سنوات أن يذهب إلى الحديقة وحده؟!
لتردّ عليه ابنته جنان بلهجة يملؤها الأمل قائلة: قد يكون هناك.
فلنخرج جميعًا ونبحث عنه.

ليكمل والدها: لو رأيت طفلًا صغيرًا مثله وحيدًا في مكان عام، هل ستتركينه يواجه مصيره المجهول وحده؟ أم ستبحثين عن أهله وتسلّميه لهم؟.
وبدون تفكير هتفت قائلة: سأبحث أولًا عن أهله في مكان تواجده، فربما يكونون بالقرب منه، لكنّهم غافلون عنه بأحاديثهم.
ليردّ عليها: نعم، إنّها الغفلة والنسيان مهما كانت قصيرة، قد تكون عواقبها وخيمة جدًا، كمثل الذي حدث لأخيك قاسم! إنّه لا يزال يتألم من أثر الحروق التي شوّهت أكثر أجزاء جسمه.
لقد مضت عشر سنوات على تلك الحادثة لكنّه ما زال يعاتبنا على إهمالنا له.

في لحظات قليلة عندما طلب من والدتك كأسًا من الشاي وأنا مستمتع في مشاهدة التلفاز وقاسم كان لتوّه يحبو ويحاول الوقوف على قدميه.
وضعت أمك كأس الشاي الساخن على الطاولة ولم تخبرني حين انشغلت في الردّ على مكالمة هاتفية.
حينها قد توقف الزمن بصرخة قاسم التي لم أنسها ما حييت، صراخه طغى على وتين قلبي.
شعر بالغصّة وهو يتحدّث عن آلامه وكأنه يرى شريط الحادث أمامه.

شاركته زوجته في البكاء قائلة: نعم، إنّني السبب! لقد نسيت حينها أنّ لديه فضولًا لاكتشاف ولمس أيّ شيء حوله.
كفكفت دموعها وهي تردّد: الحمد لله، إنه ما زال حيًّا يُرزق بيننا. فقد زهقت بعض الأرواح البريئة بسبب بعض الغفلة والنسيان.

تبادرت إلى سمعهم بعض الأصوات آتية من الدور الأرضي. شعرت مرام بالخوف على مصير أمير، هل وجدوه مصابًا أو جثة هامدة؟ هذا ما خطر على بالها.
انهارت قواها وخرّت على الأرض مغمًى عليها. ارتفع صوت والديها بالبكاء والندم على إشعارها باللوم بدلًا من التخفيف عنها.

نزلت جنان مسرعة لتستكشف الأمور وتطلب من خالد مساعدة مرام، لكنّها تفاجأت بأنّ أميرًا محمول بين يدي امرأة كبيرة السّن تحاول جاهدة تحمل ثقله وهو بصحة جيّدة لكنّ وجهه به بعض اللصقات الطبية ويرتدي ملابس بناتية!.
اندهشت خلود واحتارت، هل تسأل عن حاله أم ترجع وتخبر أختها بأنّ ابنها رجع سالمًا.
رفعت صوتها مرام: لقد رجع أمير!

كانت المرأة متمسّكة بحمله وهي تقف وكأنّها تخاف عليه من الوقوف على الأرض وهي تسأل: أين أمه؟
ليجيب خالد: أنا والده، فهل لك أن تعطيني إيّاه؟
لكنّها لاذت جانبًا قائلة: أين أنت وابنك في الطريق من الصباح الباكر يرتجف من شدّة البرد؟! هل أنت نائم غافل عنه في ملذّات الحياة؟
كانت تتكلم بصوت جهوري وقد وقف الجميع أمامها دون أن يتجرّأ أحدهم على أخذ أمير من بين يديها.

نزلت مرام وهي تشعر بالضّعف وعدم توازن جسمها على الوقوف قائلة: أعطيني ولدي!
وهوت إلى الأرض وعادت مغمًى عليها مرّة أخرى!

صرخت أمّها: يكفيكم قسوة عليها ومعاقبتها وكأنّها عملت جرمًا عظيمًا.
بكى الجميع مع بكائها وهي بين اليقظة والإغماء تهتف: حبيبي أمير، سامحني حبيبي، لغفلتي وتركك تضيع منّي.

رقّ قلب المرأة العجوز لحالها واقتربت منها ووضعته بين يديها وفي أحضانها قائلة: لا تخافي! إنه بخير، فقد ألهمني ربّي أن أخرج في الصباح لأطعم القطط على غير عادتي، لقد كنت أضع لهم الطعام بعد الغداء.
فسمعت صراخ ابنك وهو يترجف من الخوف والألم والحمد لله أنّ القطة لم تهاجمه بعنف، فقط خربشت وجهه بأظافرها الحادّة وسلمت عيناه منها.

عرفت أنه ابنك، ضغطت على كلّ الأجراس فلم يجب عليَّ أحد منكم. ولم أعرف أرقام هواتفكم وطفلكم يحتاج للمساعدة وتضميد جروحه. فأخذته معي لبيتي ونظّفته وألبسته ملابس حفيدتي وضمّدت جروحه وغدّيته. ولو كان عندي بعض الحفّاضات لتركته معي حتى المساء.
لتردّ عليها مرام وهي تحتضنه وتشمّ رائحته قائلة: وهل يرضيك أن أموت بحسرتي؟!
لن أتركه مرّة أخرى وحده أبدًا.

ليردّ والده وهو يغلغل أصابعه بفروة رأسه: وأنا سأكون حذرًا وأكثر انتباهًا.
لتردّ عليهم العجوز وهي تهمّ بالخروج: وأعتذر إن سبّبت لكما بعض القلق، فلم أشعر بالوقت مع أمير، فلو كان ابني لما غفلت عنه لحظة في حياتي..
وكلنا مسؤولون فلو كان أحد الأبواب مقفلًا لما خرج ابنكما للطريق ومواجهة المخاطر والضياع.



error: المحتوي محمي