الإنتاج الثقافي وآثاره الاجتماعية

إن مصطلح الإنتاج الثقافي هو مصطلح شامل وواسع ومتشعب أكثر مما قد يتبادر لأذهاننا ، لما له من خصائص عدة متشابكة ومتداخلة مع بعضها البعض ، وإن أراد لنا التحدث عن تلك العبارة سنرى أنفسنا مضطرين لا مخيرين للتطرق لكل ما يتعلق ببناء العقول، وبالتالي تشييد الإنسان لجميع الجوانب التي من خلالها نرتقي بشخوصنا ، وكذلك بمن حولنا أي مجتمعنا المحلي حتى يتسع نطاق تلك الفائدة وبها نصل في نهاية المراد لنور العلم والذي يستضاء بأشعته النيرة حتى تصل تلك الأنوار البازغة كل الزوايا من مملكتنا الغالية.

فعندما ننظر للمجتمعات من حولنا والتي خطت قدمًا نحو الرقي والذين اتخذوا لذواتهم منهاجًا متينًا قويًا للوصول بأنفسهم ورعاياهم وبلادهم لمكانة يستحقون أن يكونوا محل إعجاب العالم بأسره، مع التأكيد أننا لا نزعم هنا أن تلك المجتمعات وصلت للمثالية أبدًا ومهما بلغنا من التقدم وسمو السلوك لن نصل للكمال، فهذه الصفة لن نبلغها فهي لله تبارك في علاه، ولكن يجب السعي للحصول على ما أمكن الحصول عليه من تلك الصفات التي بها نصل لذروة العلا، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا بالتخلي عن الهرولة تجاه صغائر الأمور وكذلك التوقف لكل ما من شأنه تسفيه كرامتنا وعزتنا، وترك الكثير من الزوائف الخادعة والمظاهر السالبة الجاثمة على صدورنا وطريقة تفكيرنا وأسلوب معيشتنا.

ومتى ما عقدنا العزم على التغيير الإيجابي والبناء لكل جوانب حياتنا لهذا يتوجب علينا أن ننأى بأنفسنا وأفكارنا وأن نعادي ما ينتج عن تلك المتراكمات المظلمة التي لا يتمخض عنها إلا المشين من التصرفات، وكذلك ترك التقليد العقيم وعدم الركون لما تسول له رغباتنا الخاطئة من خزي الأفعال.

وهنا سؤال يطرح كيف لنا التخلص من تلك العادات آنفة الذكر؟ ولكي نجيب على هذا التساؤل لابد لنا في واقع الأمر أن ندرك يقينًا أهمية زيادة معارفنا، والسبل التي من خلالها تتعاظم أفق ثقافتنا وبالتالي تتوسع خبراتنا وهذا لا يتسنى ولا يتحقق إلا بواسطة المثابرة المستديمة تجاه القراءة والاطلاع والإقبال على البحوث العلمية والثقافية وكذلك العلوم الإنسانية بجميع فروعها مع الأخذ بعين الاعتبار أن تكون تلك القراءات ذات طابع عميق لكي نستخلص منها ما أمكن لكل ما هو مفيد وصالح لخدمة الإنسانية جمعاء.

إذًا يتضح جليًا أن النتيجة أصبحت ناضجة ومكتملة بهذا الشأن، وأنه لا مناص لنا إن أردنا النهوض لعقولنا وفكرنا وسلوكنا، وكذلك الأخذ بأيدي أبنائنا نحو شواطئ الفخر، ولكي نصل لما ننشده من الرفعة وعظيم الإنجاز يتوجب حتمًا العمل المستديم والمثابرة على التعليم وتوسيع ثقافتنا وتطوير طرق نظرتنا للتعاطي مع كل جوانب حياتنا سواء تجاه أنفسنا أو تجاه من يعيشون حولنا ومعنا، فبناء الذات عمل لا يضاهيه عمل لما له من أهمية عالية للغاية فلا أجود ولا أرقى ولا أبدع من حسن السيرة وطيب السلوك ولطف النفوس، وهذا لا يمكن حدوثه وتحقيقه إلا بتبني ذلك المشروع التوعوي والتربوي والذي لا يعمر ولا يشيد إلا من خلال الدخول في عالم القراءة والمطالعة العميقة، فالإقبال على ذلك لا يختلف عليه الأسوياء إطلاقًا، وإنه لا ريب الطريق الأفضل للوصول للرضا والاطمئنان النفسي ، فكلما تحقق ذلك كلما انعكس هذا على أنماط تعاملاتنا مع بعضنا البعض بصورة تتفق وطبيعة مبادئنا التي جاءت من رحم إنسانيتنا بجميع أسسها الأخلاقية والقيمية، للسير في طريق الصواب لننال سعادة الدارين؛ أي الدنيا والآخرة والتي تيقناها من حجج وآيات أتت من تعاليم وأوامر الحق جل شأنه في محكم كتابه المقدس في سورة النازعات في الآيتين: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ*}.

ومما لا شك فيه أن من عوامل نهي النفس عن ما يزينه لها شيطانها؛ هو وازعها الديني والمكتسب من موروثات ذات طابع أخلاقي وإنساني تأصلت من خلال طبيعة التربية ونمط السلوك جاء بها أجيال مضت، بالمقام الأول ثم بعد ذلك يأتي عامل البصيرة والذي يولد ويترعرع وتكبر ملامحه من خلال التراكم المعرفي والذي لا يأتي إلا بعامل الاستزادة والدخول في عالم المعرفة وتنمية مهارات الفرد، لذا يصبح من الواجب على كل من وقعت عليه المسؤولية كالآباء والأمهات وكذلك المعلمين والمعلمات ولا ننسى الصفوة من المجتمع أهل العلم والثقافة والأدب من الجنسين نساء ورجال أن يكونوا أسخياء ولا يبخلون بالعطاء مما تختزله شخوصهم من وفرة في المعارف والعلوم، كل فيما يخصه ومد يد العون للناشئة من أبنائنا الأعزاء وأن نضيء لهم الطريق، ونذلل لهم كل أنواع الصعاب، من خلال التربية والاهتمام وعقد الندوات وإقامة المحاضرات وتكثيف الملتقيات بشتى صنوفها علمية كانت أم ثقافية، وكذلك الحرص كل الحرص على تشجيع الأبناء والدفع بهم تجاه كل ما من شأنه صقل مواهبهم واتساع آفاقهم وزيادة خبراتهم ونمو مداركهم، وبالتالي اكتمال شخصيتهم وبعدها نصل لمرحلة النضج المنشود، وما أن يتحقق ذلك سنجد ثماره ونتائجه تلقي بظلالها على جميع مناحي حياتنا، وسنرتقي بأطفالنا وأشبالنا ومجتمعنا لمراتب يطمح لها كل المخلصين ممن يسعون جاهدين لرفع راية بلادنا عالية في جميع الميادين المشرفة، وهكذا نحلق بها في سماء المجد والعزة والتميز، فالحضارات والأمم لا تبنى ولا تعلو إلا بنور العلم، وإن جنود العلم هم الأجيال الصاعدة لكل مجتمع فالاهتمام بهم ورعايتهم وتشجيعهم والأخذ بيدهم نحو ذلك الطريق المنير هو الضمان الأوحد والأمثل لنحقق بعد ذلك كل ما يتمناه العاشقون والوطنيون لقيادتهم وبلادهم من علو الشأن والعزة والاقتدار.



error: المحتوي محمي