في ساحتنا الأدبية نماذج شعرية متفردة وقامات فارعة… الشاعر علي مكي الشيخ

الشاعر علي مكي الشيخ، حاضر في المشهد الشعري السعودي لاكثر من عقدين، شارك بالكثير من الامسيات عبر نادي ادبي الشرقية والجمعية السعودية بالدمام، كما شارك في مشاركات خليجية وعلى اتساع الوطن العزيز، اصدر ستة دوواوين شعرية: (مملكة التسبيح، نقش خاتمة، مع رقصة تشبهك، كرز، سأخلع طعم الريح)، صاحب شعرية عالية ومتجددة ونحن هنا بصدد الحوار معه حول ديوانه الأخير:
•في الإهداء الذي ألبسته ديوانك تقول : ” سألبس بعض فراغ الظلام ، وأملأُ .. بالصمت ثقب الظلام وارحل خارج بهو المجاز ليقرأ شعري عليَّ السلام ” أهو الوداع يا علي ؟!
ذكرت الإهداء .. وهو أحد تقنيات العمل الأدبي في العصر الحديث وله وظيفته الفنية ورسالته الرمزية والنفسية ، كما يعده البعض نصًّا موازيا للعمل الأدبي ، فهو عتبة نصية مهمة لدى الناقد والقارئ المختلف ، رغم الجدل الدائر بين المختصين في هذا الشأن ، إلاَّ أنَّه يحمل دلالات سيميائية للعمل المقدم وهو وسيط بين الشاعر / الأنا والقارئ / الآخر / الهو ..
أما بخصوص العتبة النصية التي جاءت على شكل إهداءٍ في ديوان ” سأخلع طعم الريح ” فالشاعر متى ما عاش لحظة الصدق وتصالح مع تجربته حَلَّ سلام القصيدة على مايريد أن يغامر فيه ولأجله .. حتى يأتيه النداء ادخلوها بسلامٍ آمنين .
•على غير العادة قَدَّمَ ديوانك د.علوي الهاشمي وهو المبتعد عن الشعر منذ زمن ، كيف رأيت ماسماه تعالق وجداني بين شعرك وروحه ؟!
كنتُ دائمًا أقول : ” الجمال يتحدَّث كلَّ اللغات ” وفي مشروعي الشعري وتجربتي الأخيرة كنتُ أراهن فيها على تحقيق رؤية ما بعد الحداثة وكانت عِدَّةُ مجسات أعبر منْ خلالها لنجاح القصيدة والنص الشعري وكان مِنْ ضمن تلك المجسات التي كنتُ أختبرُ نصي بها هو الدكتور علوي الهاشمي لما يمثلهُ مِنْ ثقل ووعي أدبي وفاصلة مهمة في خارطة الشعر العربي ، ووجدت لديه الكثير منْ ( رشحات غيبٍ في خلق بيئة الجمال داخل وخارج القصيدة فروحُهُ الأبوية وإنسانيته الفارعة ووعيه العميق بالألق يحفزانك على المواصلة والشعور بالمسؤولية تجاه ماتكتب. وله مقولته المشهورة : ” الوطن العربي يزخر بالكفاءات المبدعة الخلافة التي تصنعُ المعجزات في أقسى الظروف ..”
•أصدرت بين 1430هـ – 1442هـ ستة دواوين ، هل وجدت ذاتك الشعرية أم مازلت في حالة بحث عن أثر أضعته في السفر ؟
الكتابة الفنية تعبيرٌ عن تحقيق غاية الخلق الكونية فأينما وُجدَ الإنسان وُجدت الكتابةُ معه حيث تتفاعل معه وتتمرحل بتمرحله وتدور معه حيثما دار .. ولا يمكن لأيِّ عمل فني وأدبي الادعاء بأنه انتهى تماماً فالشاعر ليس له زمن مُحدّد ولا مكان محدود تنتهي صلاحيته ، الشاعر يمتد بامتداد أبديته متسربًا إلى سَرمديَّة الحياة ، والشاعر حالة توليدية يبتكرُ من الحدث كائنًا ومن المكان كونًا فارعًا ، بمعنى أنه خلَّاق بطبعه ، وهل وجدت شجرةً تخلَّت عن أوراقها وغصونها ونموها بذاتها .. هكذا هو الفنان ، لأنَّ الحياة متجدِّدة فالشاعر لابد أن يتجدد معها ويتماهى مع أحداثها .
• ” توقعت .. أن لا أستعير خسارتي .. وأجمل مافي الذنب أنك تخسرُهْ ” في زمن الخسارات الكبرى ، أي الخسارات أرهقت الشاعر؟
الشاعر ياسيدي لا يتعامل مع المفاهيم بلغة معجمية فليست الخسارة عند هي الضرر أو التلف أو الفقد .. بل هي معادلٌ موضوعيٌ للتعبير عن ترميم أو سد فراغ ما بخسارةٍ تَمُدُّ بالطاقة المتجددة .. الخسارة التي تعوضه عن خسارة، هي كأيِّ مفهوم آخر يقرأ بتأويل شعري مجازي كالموت والتلاشي والرحيل إذا جعلها الشاعر مؤشرًا على نموّ حبه وعشقه فالخسارة التي يحملها الشاعر هنا هي خسارة محببةٌ !!
•تخفف الشعراء في وطننا إلا قليلاً في حضور الرمز في القصيدة ، فمن عبقر حتى البابلي في شعر الراحل الثبيتي وبعدها لا شيء ، ترى مالذي يغيب الرمز في شعرنا الحديث في المملكة ؟!
لا شك أن توظيف الرمز في النصوص الشعرية يمنح العمل عمقًا دلاليًا ويُعبّرُ عن رؤية ما ورائية لكلِّ ما تفرزه ثقافة النَّص .. وهذا بحدِّ ذاته يُعد تقنية مهمة في جعل النّص أكثر رشاقة وأطول عمرًا ، فلو استعرضا الأسماء لا تسع الحديث حولها ولكن على سبيل النمذجة أذكر الشاعر جاسم الصحيح وحيدر العبدالله ومحمد الماجد وأمجد المحسن ومحمد يعقوب وحسن الصميلي والقائمة تطول نجد لديهم الرمز حاضرًا بشكل لافت وواعٍ جدًّا ، وإن تخفَّف عند البعض فهذا لا يعني خفوت التجريب الشعري أو تقليل من شعرية العمل وذلك حال الشعر لا يظلُّ ثابتًا ولا يرضى أن يكون تحت تأثير أي باعث خارج فنية القصيدة، ولعل ما كان يخدمه سابقًا لا يمثل له نفس الدور ودواعي الاستخدام قد اختفت أقول ربمّا ولكن أؤمن بأهمية توظيف الرمز وتعميق استخدام شيفرات اللغة بين الشاعر والمتلقي ذلك أدعى لفخامة النص .
• في قصيدة ( قميص نبؤتي ) يبدو أنَّ الموروث يتلبسك بالحكايا وهذا جيد للغاية طالما يهبك القصيدة المثلى ، إلى أي حد يمكن للقصيدة أن تنهض وتتوالد من رحم موروثنا الغني والجميل ؟
مازال تراثنا العربي مخبوءًا تحت أستار الغفلةِ أو التهميش واللامبالاة ، هناك صفحات مشرقة في التراث لم تكتشف بَعد ، وربما لو قلت لك أن مِنَ النصوص التراثية سبقت الحداثة بمديات لم أكن مبالغًا في ذلك ، وسأعطيك مثالاً على ما أقول ، فلو رجعنا إلى ما ينقله المبرد في كتابه الكامل .. حول ” تكاذيب الأعراب ” وهي قصة خيالية سريالية يتنافس فيها اثنان كلُّ شخص يقول قصته الخرافية مِنْ تأليفه ولا بدَّ أن تكون وليدة اللحظة والآخر يستمع إليه متمثلاً دور المتلقي ، وحين ينتهي يبدأ الآخر بسرد قصته المكذوبة ويأخذ الأول دور الثاني في الاستماع .. والقصتان ترتكزان على التكاذب والتفاعل المتعمد بحيث يكون معيار القصتين الأدوات الفنية والقيمة الجمالية رغم أنهما مِنْ فئة الأعراب الذين يعيشون في ليل الصحراء هذا اللون مِنَ الأدب لم يُعط حقه مِنَ الدراسة رغم مافيه مِنْ أدب رفيع ولغة رقيقة وبلاغة شفيفة .. يوظفُّ كُــلَّ لفظةٍ ينتقيها النص بعناية فائقة ورمزية مُحترفة .
• يقول الشاعر أحمد سليمان الأحمد : ” إني لأدخل في القصيدة مثلما داري وعمري مثلما أحلاميا ” ، كيف يدخل الشيخ إلى قصيدته ؟
الدخول للقصيدة هو خروج عن عالمٍ ممسوسٍ إلى عالمٍ خالقٍ للمسِّ مراوغةُ تلك اللحظة التي تسبق الكتابة ، قد يحاول الشاعر أن يفتعل عملية الدخول فيتفاجأ أنه أبعد ما يكون عن النص ، وكلما حاول وجد نفسه خارج اللعبة .
•كيف يقرأ الشيخ خريطة الشعر في بلادنا وهل هناك تجارب متفردة ينحاز الشيخ إليها ؟
أن تصدر حكمًا على مساحةٍ واسعةٍ مِنَ الجمال والأعمال المتكاثرة هذا يحتاج إلى كثير جهدٍ وواسع اطلاع لتخرج برؤيةٍ ثقابة موضوعية تضعك على جادَّة الصواب ، ولكن الانطباع المبدئي هو أننا أمام تجارب شعرية متفردة ، ونماذج فارعة تشي بالكثير مِنَ الألق والضوء .. ساحتنا الأدبية والشعرية تمتلك بصمات خاصة متجذِّرة ، منها مااستغرق في استيعاب التراث وتعالق معه بوعي ، ومنها ما حاول أن يبتكر للشعر أدواته وآلياته ويرسم له نسيجًا شعريًا منفردًا ، ومنها ما استطاع أن يهندس عمله الشعري بلغةٍ ثقافيةٍ معبأة بالمعاصرة الآسرة ، الشعر كائنٌ مراوغ ، ومستفزًا في بلادنا ، أما انحيازي لتجارب بعينها فأنا أنحاز لأيِّ نصٍّ يشاكسني ويشاغب ذائقتي ويحفرُ في أودية السؤال ما يجعلني أفتشُ داخل أقبية الشك عن شكٍ آخر ، ولو كان هذا الشاعر مغمورًا أو كان في أول دروبه الشعرية.



error: المحتوي محمي