الحاسة السادسة.. بين الغموض والورود .. حدث وحديث “31”

لَقَد استَشعَرَ الإنسان مُنذ سَابق القِدَم؛ وتنبّأَ بسيلٍ عَارمٍٍ مِن رَكبِ شَتّى الظواهِر الكَونِية الخارِقة، التي اضطربت لَها مَلكة فِكره المُتوقّدة؛ وتَنامَى بأسرَارها، باستحواذ واستأثار، سَنَا بَرقِها الساطِع، في أعّالي صِهاء مُخيّلتِه الواسِعة؛ وتَسرّبت تِباعًا، جَلبة صَلاصِل أصواتٍ؛ وشَعّت بخُيلاءِ، بُؤر أضواء وأنواء، تلك المُفرقِعات الضوئية المُدوّية، في أَدقّ هَالَاتِ تلافِيف ذِهنه، بَعدمَا أوْصله نَهج مَلَكة الحَدَس العِلمي الخارِق المُقنِع، إلى نزعَة البحث المُتَتبّع الدؤوب؛ وقَادَته أريحيةً، إلى دِقّة المُلاحَظة الفائقة، وفِراسة التقصّي اليقِظ… بأنّ مَسقط رأسه الزاهر- كَوكَب الأَرض- مَا هُو إلاّ جِرمًا صَغيرًا، تشكّل في أَبَدِ غَابِر الزمن السحِيق؛ مَع الكمّ الهائلِ مِن سِلسِلة الأجْرام والمَجرّات السماوية الهائلة المتنائية في فضاء الكون العظيم؛ وبَعُدَت كُتلتها بتوسعٍ، عَن مَركز جِسم الكوكب الحاضِن الأُم، الشمس المُضِيئة نأيًا، مُنذ مِليارات مِن السنين، ثمّ بَردت وتَصلّبت، في فَسَاحة سَدِيم الكون، وَسَط خِضمٍ هَائلٍ مِن مِياه جَوف المحيطات الساجِرة، التي تكوّنت، وتشكّلت فِيما بَعد، قارّات عُظمى مَأهُولة زاخِرة؛ وانبعثت مِنها كُل أسِرار، وآمال، وأحلام حَياة وعِيشة الإنسان المُناضِل المُعاصِر… بقُدرةِ قوةِ الغَلبةِ المقدّرةِ، والهَيمنةِ القَاهِرةِ، للقادِر الخَلاّق العظيم… وهَدَاه عَقله الجبّار إلى صِياغة نَسج النظرية الخَلقية، التي تنبأت بها عُقول، وبُحوث، وجهود الفيزيائيين الروّاد، والمُهتمّين الأوائل بدِراسة الكونيات الفلكية، التي أضَاء واستنَار بها عقل الإنسان رَدَحًا، واستأنسَها قَبُولًا، وسَمّاها باندهاشٍ: (الانفجار العظيم)… ولَربّما أَوصله رَيع مَلَكتة، الحاسة السادسة، إلى تَلمّس واقِع ذلك الحَدَس الخَلقِي الربّاني الضخم، بَعد أنْ أعْمَل مَلكة عقله المُتيقّظة العزُوم تدبّرًا؛ وأمْعَنها تأمّلًا، في واسع رُقعة كُنه مَلكُوت هذا الكون الفسيح!

هَذَا، وَلَم تَكن القدرة الخارقة لِمَلكَة عَقل الإنسان الجبّارة، المُتمثّلة في فَكّ شَفرات الحاسة السادسة الحُبلى، بِما آتاه الله مِن فَيضِ عِلمٍ مُحدّدٍ مُقننٍ، بنص قُرآني حَكيم:(… ومَا أُتِيْتُم مِّنَ العِلمِ إلَّا قَلِيلًا)… تلك المِساحة مِن زَخم العلم الضافي، وآفاق المعرفة المُتنامِية، استغلّهما عقل الإنسان المُبدِع، أيّمَا استغلالٍ، على مَرّ الدهور، ومُضِي العُصور، ومَا تَعاقَبهم مِن أنصع وأوضح سِجلّ تاريخ سِيرة ومَسِيرة حُقب حُدود وصُمودِ مُختلف الحضارات الإنسانية؛ ومَا زادَهم إلا رَمزًا حَقِيقيًا لهَبَّة تحضُّرِهم؛ واتّخذوا- سِلاحَ العلم، وكِفاحَ المعرفة- أيقونةً مُضِيئةً؛ ومِعيارًا حَافزًا لنفرةِ تَطوّرِه الشامِخة؛ وسِجلًا مُوثّقًا لإثبات جَوهَر وُجُود هُويتهم؛ ومرجِعًا مُنصِفًا، لتطوير حَال كُنه ذَاتهم؛ ومِثلهم، إعمار وإسعاد بِنية دار بيئةِ دُنياهم المُعاشَة… والأَكثرَ، إنّ ريع نِعمة حَاسّة صِدق حَدسِه الخارقة، التي تعمل بمثابة مُرونة الحبل الشوكِي، في بِناء أُصُول اقتصادِهم المتجدّد، وصِناعة مُحدِّدَات قَواعِد أسُس أَمنِهم الآمِن، ورِعاية مُعطيات أمانِهم الشامِل؛ وترسِيخٍ مُوثّقٍ فَائقٍ، لجُلّ مُكتسباتهم الحاضِرة المُتطوّرَة؛ وإكسابِها قُوّةً، ومَنعَةً، وصَلابَةً… !

ولَعَلّ مِن أَعماق مُتّسع ضِفاف نَهر الحاسة السادسة الخارقة، أنْ يَتفرّع بحكمةٍ، سَيلٌ هَادرٌ مِن أَقوى الأخادِيد الجارية الرئيسة، التي لابُدّ لَها أنْ تتظافَر وتتلاقَى مَعًا، وأنْ يُلملِم الإنسان الفطِن بمعِيّتِها، شَذَرات وكِسرَات شَتاتِها المُتفرّقة، في إِحياء احتفالية دَيمومة؛ وإبقاء سَرمدية قُوّة حاستة السادسة، واستضافة زَحفِ أخواتها النّد، ومِن أهمها على الترتيب: مَلَكة التخاطُر، والإدرَاك الحسّي الخارِق، وقِراءة الأفكار، وحَدَس التنبوآت، وحِدَّة الفِراسة… ومِن حُسن نَافِلة القول، إنّ جَوهر تِلك الأخاديد العقلية المُترّعَة، لا يُمكن حَصرها حِسابيًا؛ أو واحتكَارها حَصريًا، على شُعوبٍ، أو أَقوامٍ مُعينةٍ، أو حَضَاراتٍ مُحدّدةٍ، دُون غَيرها … والأَهَم الأَعَم مِن، احتضان واحتواء رَيع تلك الأخادِيد “الفِكرية” وتقبّلها واستحسَانها بانفرَاد واطّرَاد، هو إخضاع مَصبّاتها الخالدة، إلى مَنصّاتٍ ومُختبراتٍ دَولية، لِهَبَّات البحث العلمي المُعاصِرة؛ وتَطوير وتَوتيق حَاصل نتائِجها الزاهرة؛ وحَصاد مَدّ مُكتسباتِها الضافية، أَنَّى ظَفَر بها عقل الإنسان المُعاصر،إ في فَيء مِظلة عصر العَولمَة المُنتشرَة المُمتدّة، لِصَالح خِدمة، وسَعادة، ورَفاهية شُعُوب البشرية جَمعاء.

وَفِي حَقَيبة ذَاكرتَي حَراك مَوقفٍ عَمليٍ بَانوراميٍ، لَا أَكاد أنسَاه، عن مَهارة قوّة إعمال بَديهية المُلاحَظة الحاذِقة، سَمعته ذات مَرّةٍ، قُبيل تسعينيات القرن المُنصرم، مِن أُستاذ، عَربي، بكلية الجبيل الصناعية، مُتخرج في جَامعة، في اليابان، عِندما كُنت أدْرِس “كُورسًا” تربويًا هُناك، لصَالح إدارة التعليم بالهيئة الملكية بالجبيل الصناعية، حَيث أتحف الأستاذ المُحاضِر أسماعَ الطلبة الحاضرين بقصةٍ واقعيةٍ، تنجذِبُ لها الأذهان، وأفاد: كان هناك- في اليابان- مصنع ضخم لمنتجات المواد الإنشائية، مُقسّم إلى وِحدات إنتاجبة كُبرى… والمهمّ في الأَمر، كان مأمور التنظيم، المسؤول عن توجِيه مَسار مَصفوفة شَاحنات النقل الدورية، والذي لَا يَتعدّى مُؤهِّله التعليمي، سُلّم التعليم النظامي، يَرتقِي عَلى مِنصّة عُلويّة، ويَقوم بتوجيه خط سَير الشاحِنات، بدقّة وإِجَادَة، مِن لَحظة بِداية دُخولِها، إلى تحميل حَاويات البضاعة، عَبر أَنفاقٍ وجُسورٍ، ومُنعطفاتٍ، إلى خُروج الشاحنة مُحمّلة مِن أسوار المصنع… حَيث تستغرق الشاحنة الواحدة زُهاء سَاعةٍ مِن الزمن… وفي لحظة ذِهنية يقِظة، قام المأمور البارِع بدراسة إعادة رَسم المَسار، رَغبة مِنه في تقليل زَمن التحميل المُستغرق للشاحنة، للخروج مِن أسوار المصنع؛ ومِن جَانبٍ آخرٍ، تعزيز لانتمائة ووَلائه الوظيفي… وبعد أَنْ أنهى إعادة رَسْم مّسار خطّة السير النظرّية المُقترحة؛ لِتستغرق الشاحنة، داخِل مَيدان المصنع نصف المدّة المحددة المُعتادة، إلى نصفِ ساعةٍ فقط؛ قام الآمر مُجتهدًا، برفع خَرائط تفصيلية في مُقترح مُخطّطه إلى إدارة المصنع؛ والتي بدورِها شكّلت باهتمام، لَجنةً فَنيةً هَندسيةً مَيدانيةً؛ لدِراسة المشروع… وأخيرًا برز مُخطط المشروع الجديد إلى حَيّز الوُجُود، بَعد أنْ استُكمِلَت مَهام إعداد، وتنفيذ مَا يَحتاجه، مِن عُدّةٍ وعَتَادٍ!

وبَعْدَ لَمحَة هذا التقديم المُوجز المُتواضِع، يعرّف العلماء ببساطة، الحاسة السادسة: بأنّها هِبَة رَبّانية فِطرية، مَحفُوفَة بملكة التنبّؤ، ومَيّالَة إلى تلمّس صِدق الحدس؛ تمتاز بها ثُلّة مَوهُوبة، مِن الناس؛ لقِراءة المَستُور، ومَعرفة المَخبُوء؛ لأُمورٍ مُستقبليةٍ، قد لَا تخطُر ببال عَامة الناس… وكما يُؤكّد عُلماء آخرون، أنّ هِبةَ مَلكةَ الحاسة السادسة، لا عَلاقة لها بَتاتًا، بالمؤهِّل التعليمي، أو مُستوى الذكاء العقلي… ولَا تنقُصها مَورِد صِدق التخاطر، ولا تعُوزها قُوة الفراسة، قلبًا وقالبًا؛ ويُمكن تَعزيزها مَرحليًا، بمَناحِي التأمّل؛ وتَطويرها بمَساعِي التدبّر… ولله في سَائر خلقه شُؤون!



error: المحتوي محمي