الاحلام الليلية.. بين الواقع والنسيان .. حدث وحديث “30”

لَا يّكّادُ أحدٌ يعرف بالضبط، حقيقة مَا يحدث لنا أثناء باقة مسلسلات أحلامنا الليلية المتجدّدة المتكرّرة، في سُبات هجعة النوم العميق، إلا أنّ النوم “سُلطان مُسيطر” كما يقولون … وأخيرًا، صار عِلمًا أكاديميًا مُستقِلًا يدرّس، وله أساتذته، وطلابه، وأبحاثه؛ وتشير أحدث خلاصات الأبحاث التحليلية؛ بل وحتى على مُستوى الإدراك والتحليل الفردي الذاتي، يُلاحظ الفرد، أن معظم الأحلام الليلية، هي مُجرّد انعكاسات وارتدادات، لحدثٍ رئيسٍ؛ أو مجموعةِ أحداثٍ متداخلة؛ أو جُملة أخبارٍ متفرّقةٍ؛ أو مترابطة؛ أو حُزم متماثلة حيّة مثيرة؛ مِن سلّة انعكاس مشاهدات عرضت لنا؛ وعلقت بصِهاء أخْيِلتنا خلال فترة ساعات نهار اليوم خاصة؛ ومِمّا سَمعناه مِن قَصص درامية موثّرة؛ أو حَوادث عالمية منتشرة؛ أو ما اعتدنا مشاهدته على متّسع شاشات الفضائيات مِن جديد نشرات أخبار، وحديث مسلسلات اجتماعية؛ أو مَا تقدّمه مَنصّات التواصل الاجتماعي؛ أو مَا يثير انتباهنا مِن لقطات موثّقة لحوداث محلية؛ أو عالمية… ومَا شاهدناه وشَهِدناه مِن طبيعة وأجواء، أخّاذة جذّابة، وأحاديث ماتعة، بمعيّة مختلف أجناس الشخوص مِن ظاهر ثقافات أخرى- في رِحلات أسفارنا- غير الذين اعتدنا على رؤيتهم، وألِفنا صُحبتهم- سِيرة ومَسيرة- في عَابر نمط رُوتين الحياة اليومية، في بلادنا… ولنا في ذلك الإرث المَوروث، والرصيد المَكنوز، نصيبًا وافرًا، ومخزونًا هائلًا، مِن أحلى الصور المثيرة، وأمتع صَيد اللقطات المحفوظة- الزمانية والمكانية- الملونة، التي يَزخر بحفظها واحتضانها واسِع أرشيف عقلنا الباطن؛ ويَحرسها رحِيب مخزون نِدّه، عقلنا اللاواعي، في آنٍ واحدٍ!

ولَعَلّ نَصيبًا وافرًا مٍن أمتع وأطرب مسلسلات الأحلام الليلية الممتعة، ممّا ألِفناه، واستمتعنا به رَدَحًا، في سنوات طفولتنا المرحة… وهُنا أخاطِب أصالة، أتراب جيلي، مِمّن يسعدون اليوم بمرحلة عُمرية منشرحة، ما بَعد سن التقاعد… ولطالما نعمنا وعشنا هانئين – في ريعان عُنفوان طفولتنا السعيدة- وفي وسط ببيئة طبيعية ساحرة: بساتين غنّاء مزهرة؛ وأشجار خضراء نضرة؛ وعيون ماء متدفّقة؛ وأسراب أطيار مهاجرة… وكذلك مَا عشناه ومَارسناه، جدًا واجتهادًا، في ظِلّ سنوات الدراسة الماتعة، في مراحل التعليم النظامي؛ عَلاوة على ذلك، مَا لمسناه، واقِعًا مُعاشًا، مِن بسَاطة العيش، وسَماحة نفوس الأناسِي والجيران، مِن حولنا؛ وطِيب أخلاقِهم؛ وجميل سَماحتِهم المعهودة؛ ونُبل سيرتِهم الودودة… كل ذلك له الأثر الكاسح المستحوذ؛ والبث المثير المنعكس، في صِياغة وصِناعة عُمق سابِق ولاحِق أحلامنا الليلية؛ وبناء أطر ومُحدّدات شخصياتنا المميّزة، في مَدِيد حاضر أعمارنا الراهنة… لسبب نفسي، “فسيولوجي” جَوهري مفاده: إنّ الأحداث القديمة، قد استحوذت على عمق وحيّز مرتّبين، في مخزون مكنون آمن في ثنايا ذاكرة العقل الباطن؛ وبتشبيهٍ آخرٍ: إنّ قوام ريع فَحَاوَى، وبَاكورة خُلاصات تلك الأحداث، قد طُهِيت ببطءٍ وأناةٍ، على نارٍ هادئةٍ… وصَنوها ذلك النّسق المستقر، مِمّا ثبت وعلق في باطن مخزون العقل اللاواعي… وإنّه مِن السهولة واليُسر بمكان، استدعاء أصول تلك الأحداث المرتّبة المبوّبة، مِن فوق أرففف، وبطون ومخازن رَدْهات، ومقصورات مكتبة الذاكرة الواسعة، برائق يسر وسهولة؛ وفائق دِقّة وسَلاسَة.

هَذَا، ومِمّا أثار فَرط دَهشتي بشدة حقًا، ما استمعت إليه مِن حدث موثق، ذات مَرّةٍ، عندما كنت شابًا يافعًا؛ حيث كانت تربطني عَلاقة عملٍ، في الفترة المسائية مع رجلٍ مُتزوجٍ، ولديه طفلين، وطفلتين، وهو موظف ميسور الحال، يعمل في إحدى الشركات الكبرى، وصاحب بقالة حديثة مرتّبة؛ وقد توثّقت علاقتنا، مع مُرور الزمن، وارتقت إلى صداقة، مع فارق المرحلة العمرية… وقد حَدّثنِي أصَالة- يرحمه الله تعالى- أنّه ذات مرّة، حدث أنْ ضبطته زوجته في إحدى الليالي، وهو في عُمق سُبات نومه، في مُنتصف الليل، وقد نهض مِن فراشه، وقام بلف الوسادة بلحافه ووضعهما على كتفه، وقد همّ بالخروج مِن غرفة النوم… وفي تلك اللحظة الحاسمة ذاتها- في غمرة ذُروة الحلم- وهُنيهات اللاوعي… انتبه مِن حُلمه، وعاد بأدراجه في الحال؛ ليغطّ ويتابع لقطة الانغماس في زحمة مسلسل أحلامه الماتعة، وهو في حالة انغمارٍ تامٍ في شِدّة اللاّوعي… ولعل مِثل ذلك المنحى، الماثل في عُمق مكنون العقل “اللاواعي” يكون فَرط ذلك النشاط الحركي المركّب، مِن جُملة حُزمة الألغاز المحيّرة، المرتبِطة بأغرب عدسة صَيد رائق الأحلام الليلية المحتاجة إلى بحثٍ، ودراسةٍ، وتقصٍ، ومتابعةٍ علمية لوظائف “مِيكَانِيكِيّة وفَسْلَجَة” عمل المخ البشري أثناء هجعة النوم الساحبة…!

وعَوْدًا حميدًا إلى موضوع “الواقع والنسيان” كما هو في ذِكر عُنوان الخاطرة… فهجمة الأحلام الليلية المستحوذِة هي واقع محسوس، لا يُمكن انكاره؛ أو تجاهله، مَادام العقل الباطن يعمل بنشاطٍ ودأبٍ، على مَدار النهار والليل؛ فهو بمثابة الأوكسجين، الذي نتنفّسه أثناء ظُلمة الليل، ووَضح أطراف النهار؛ لإبقائنا على قَيد الحياة… وممّا تذكره الأبحاث، أنّ الفرد يحلم بمعدّل مِن أربع إلى سبع مراتٍ مِن الأحلام المختلفة في الليلة الواحدة، وأكثرها يؤول إلى دروة طي النسيان… ولَربّما تكون أغلب مسلسلات الأحلام الليلية هي إراحَة مطلوبة محسوبة؛ للنفس والجسم معًا؛ لتخفيف ما اعتراهما قسرًا وقهرًا، مِن أثار هجمات مُفاجئة مِن شتّى ألوان الضغوط الاجتماعية؛ ومثلها التوترات النفسية، أثناء ساعات النهار، وفي برنامج السعي الدؤوب، لمتابعة مُتطلبات الحياة، وتوفير لُقمة العيش الحلال!… ودليلنا الآيتين القرآنيتين الكريمتين- العاشرة، والحادية عشرة- مِن سورة النبأ: (وجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا* وجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا).

ولَا يَفُوتَني أن أشير إلى أحلى وأروع القَصص الموثّقة في متن آي الذكر الحكيم؛ والتي انطوت واحتوت على عَميم الرؤى، وكَثير الأحلام الليلية، للعزيز، حاكم مِصر، عندما رأى في منامه، ذات ليلة، رؤيا ليليةٍ مزدوجةٍ “مروّعةٍ” مفادها: إنّ سَبع بقرات سِمان، يأكلن سَبع عِجاف؛ وسبع سنابل خضر، ومثلهن يابسات؛ وأراد الحاكم، آنذاك، باهتمام واعتناء، أنْ يَقف على مدلول تفسير منطقي لرؤياه؛ ليهدّأ مِن رَوعة؛ ويخفّف ممّا انتابه انزِعاجًا ورُعبًا… ومِن شدّة أحاسيس الخَوف؛ وتفاقُم مشاعر الوجَل؛ فجَمع الملك رؤوس السحرة والكهنة، في مملكته؛ وقصّ عليهم رُؤيا حلمه؛ لعلهم يظفروا بتروٍ وتدبرٍ، بتفسير مَنطقي مُقنع… والنتيجة أنْ واجهوا جميعهم، جَناب الملك المتطلّع لجوابهم وتحليلهم، بردٍ “مُزرٍ مُخزٍ”: إنها أضغاث أحلام… وقد بانت حقيقة جَهلِهم، وانكشف زيف سَفاهتِهم؛ وعَجزت أفكارهم السطحية؛ وخَرست ألسنتهم العجماء… عِندئذ، قام الملك بطردهم مِن مجلسِه، شرّ طردَةٍ؛ ورَاح بصبرٍ وأناةٍ، يستقصي حَثِيثًا، التفسير المنطقي اللائق لجوهر رؤياه المُأَرِّقة؛ فأرسل الملك القلِق تِباعًا، بعد ذلك، مبعوثًا إلى السجن الذي حُبِس فيه نبي الله، يُوسُف الصديق عليه، وعلى نبينا الكريم، أفضل الصلاة، وأَتم الصلاة والتسليمّ؛ والمفاجاة، أنّ النبي يوسف عنده “كَرَامَة” تفسير الأحلام؛ وعندما سَمِع الملك بتفسير النبي يوسف لحلمه، المنقول إليه، أَكبَره وأَجَلّة؛ وقد انجلت عتمة مَخاوفه؛ وزال همّه المزعج؛ مِثلما زال همّ وغمّ نبي الله يعقوب، وانشرح صدره، عليه أفضل الصلاة والسلام، عندما أَلقوا أخوة يوسف القميص على وجه أبيهم…!

وخُلَاصَةُ القول: إنّ الأحلام والرؤى الليلية، ماهي إلّا سلسلة متواكبة مِن سيلٍ مِن الانعكاسات لأحداث مُعاشة مُختلطة مُبالغة في نسجها، وتنبوآت استشرافية غيبية، تستشعرها أفئدة ثلة مختارة مِن البشر، وتُقْذَفُ في مُهجِهم، بتدبيرٍ، ومشيئةٍ، وحكمةٍ إلهيّةٍ… ومَا ذلك الأمر على الله بعسير…!



error: المحتوي محمي