سيرة طالب (٣٢)

الامتنان قيمة عُليَا
سكنت مع الشيخ حسن الجنبي في إحدى شقق حيّ السيّدة زينب (ع) مدّة أشهر قليلة، وكان وضعنا الاقتصادي قريبًا من الصفر، حتى كنّا في يوم من الأيام صفر اليدين فعلًا، فتناولنا ما تبقى من فتات وجبة سابقة في غداء ذلك اليوم، إلى أن جاء يوم آخر نفد فيه ذلك الفتات.

فاقترح أحدنا على الآخر بأن نذهب إلى الشيخ مصطفى المرهون، أبي ياسين، لعلّه يعطينا ما نسدّ به رمق جوعنا، ولو كان خبزًا وشيئًا من الجبن.

سخاء وجود
سعينا إلى الشيخ المرهون، وطرقنا باب داره، فاستقبلنا ببشاشة، أخجلنا عن التصريح بطلبنا الذي سعينا من أجله، لكنّ خوفنا من ارتفاع صياح عصافير بطوننا، دفع بنا إلى كسر حاجز ذلك الخجل وأخبرناه بما جئنا إليه بسببه، وإذا به يستغرق في الضحك حتى أمسك صدره، ثم سلّمنا مبلغًا يكفينا مدّة شهر كامل، بل تكرّم بنا أن غذانا ، وقال في نهايه الجلسة: *لا تطرقوا باب أحدٍ غيري، لو استدعت الحاجة إلى أيّ مبلغ يقضي حوائجكم.*

مثل هذه القصة قد تمرّ بمن عاشها وتُروى لغيره من الناس، وتبقى في الذاكرة مدّة حتى تتدحرج منها يومًا ما ويكون مصيرها النسيان.

في المقابل، ثمّة قصص وأحدث يعيشها الإنسان في بعض أدوار حياته، يُستبعد، إن لم يكن ذلك مستحيلًا، أن تكون يومًا ما في مطاوي النسيان.

الفطيرة اليتيمة
واحدة من تلك القصص المؤثّرة بجميع تفاصيلها، ما حدث في مدينة قم المقدّسة، أروي – هنا – لكم أحداثها، على أمل سرد المزيد من القصص في الحلقات القادمة بإذن الله.

اصطحبت زوجتي وأولادي الأربعة في زيارة عطلة صيف عام ١٤٣٠هجرية تقريبا لمدينة قم المقدّسة.
سكنت هناك في بيت أحد الطلبة المسافرين الذين غادروا إلى الوطن. ذات يوم، جاء لنا أحد الزوار يرغب في أن يسكن في سرداب البيت، ففتحنا له الاستراحة، ونحن نتشارك معه في الفطور والغداء والعشاء.

في يوم من الأيام الصّعبة نفد كلّ ما كان بحوزتي من مال، إلّا حقّ سائق سيّارة الأجرة التي تقلّنا ذهابًا وإيّابًا.
ذهبت مع زوجتي فقط إلى حرم السيدة المعصومة (ع) وصلّينا صلاة العشاءين، وتذكرنا ضيفنا، لا بُدّ من إعداد وجبة عشاء له.

سألت زوجتي إن كان في البيت مؤونة تكفي لإعداد وجبة الضيف، فاعتذرت قائلة: لا يوجد عندنا شيء، لا قليل ولا كثير.
لم يكن بيدي سوى شراء فطيرة واحدة، كان ثمنها أجرة السائق الذي كان سيُرجعنا إلى مقرّ إقامتنا، ما اضطرّنا إلى المشي مدّة تقرب من نصف ساعة في شارع عام، لا تكاد تبصر أحدًا من المارّة فيه، إلّا السيارات التي تذرع الشارع جيئة وذهابًا.

وصلنا البيت، فاستقبلنا الأولاد فرحين مبتهجين وأعينهم على الفطيرة اليتيمة.
قطّعناها قطعًا صغيرة في الصحن، فامتدّت أيدي الأولاد إلى أن يأخذ كلّ واحدٍ منهم نصيبه، فنهرتهم وأمارات الغضب بادية على وجهي قائلًا: الفطيرة للضيف، وليس لكم.

أخذت الصحن إلى حيث مجلس السرداب وقدّمته إلى الضيف سعيدًا بما تيسّر لي من أمر القيام بواجب، فأخذها وابتلع ما في شدقيه لا يعبأ بأي شيء.
الأولاد ينتظرون العشاء وهم خمص البطون وغلبهم النّعاس فناموا، مؤمّلين أن يستيقظوا على ما يُسكتون به شيئًا من جوعهم.

العابد التّقي
مشهد الأولاد المؤذي زاد من همّ وكآبة والدتهم، فاستسلمت للنوم، في حين أنّي كنت واثقًا بالله كلّ الثقة، ألّا يتركنا في هذه الحال، ولا بدّ من تُشرق شمس يوم جديد مفعم بالخيرات، وهكذا كان لطف الله – جلّ شأنه – بنا.

ففي صبيحة اليوم التالي، إذ بالباب يُطرق، وكان الطارق الشيخ إسماعيل الإسماعيل، من طلبة العلم في الجشّ، يقول: يُسلّم عليك *الشيخ محمد كاظم الجشّي* ويوصل لك هذا المبلغ (٥٠٠ ريال).
فقلت له: أستضيف سماحته وأنتم إلى وجبة عشاء يوم الغد في هذا البيت.

لبّى الجميع الدعوة؛ الشيخ إسماعيل والشيخ حسين المحمد (رحمه الله)، من طلبة الجشّ، والعاملين النشيطين في الدعوة إلى الله، وتوفي أسفا بسبب الكورونا وهو في قم، والشيخ محمد كاظم بعشاء لذيذ بحضور هذا الزاهد المتّقي.




error: المحتوي محمي