الخروج من الباب الكبير

عند متابعة مباريات كرة القدم في الدوريات الأوروبية المختلفة، يستخدم المعلقون في بعض الأحيان وبالخصوص عند تواجد أحد أساطير كرة القدم المعاصرين في الملعب عبارة حان وقت “الخروج من الباب الكبير”، أي أنه التوقيت المثالي والمناسب للتنحي جانباً والحفاظ على السجل الذهبي والتاريخ المشرف قبل أن يقل العطاء في الملعب ويصبح نقطة ضعف وبعد ذلك مرمى لسهام المنتقدين بسبب سوء نتائج الفريق ومن ثم يُجبر على الخروج من الباب الصغير (الضيق).

الأسطورة السويدية “زلاتان إبراهيموفيتش” يبلغ من العمر 41 عامًا ومازال يلعب في نادي إيه سي ميلان في الدوري الإيطالي أحد أعرق الأندية على مستوى العالم. تنقل بين أكبر الأندية في القارة العجوز (الأوروبية) ولعب في أقوى الدوريات، لكن “السلطان” كما يسميه العشاق والمتابعون لم يعد جلاد الحراس كما كان قبل بضع سنين حيث يخشاه كل من يقف أمام الشباك من مدافعين وحراس، بل إن الوقت الذي يقضيه حاليًا في عيادة النادي للتعافي من كثرة الإصابات أكثر بكثير من الدقائق المعدودة التي يلعبها دون تقديم أي إضافة للفريق.

مَن مِن متابعي كرة القدم لا يعرف الأسطورة البرتغالية كريستيانو رونالدو؟ يبلغ من العمر 37 عامًا ويملك سجلاً حافلاً بالإنجازات والجوائز على الصعيد الفردي والجماعي، لم يحظ به إلا عدد قليل جداً من اللاعبين في تاريخ كرة القدم، لكن لم يعد صاروخ ماديرا كما كان قبل بضع سنين مكينة أهداف يسجل من أشباه الفرص، ولم تعد صواريخه عابرة القارات التي مزقت شباك أعتى فرق كرة القدم العالمية لا تصد ولا ترد، بل أصبح وجوده في الملعب فأل خير للفرق المنافسة لأنه يشكل نقطة ضعف ولم يعد يشكل تلك الخطورة الذي كان عليها في ريعان شبابه، بل لم يعد هدفاً يتنافس على استقطابه أكبر الأندية في العالم ولو لأغراض تسويقية.

خلال متابعتي لمباراة كلاسيكو الأرض بين قطبي الكرة الإسبانية برشلونة وريال مدريد، أشاد المعلق الشهير عصام الشوالي بلقطة جميلة قدمها اللاعب الكرواتي لوكا مودريتش متعجباً أنه مازال يقدم مثل هذه اللمسات الفنية والمردود الكبير في الملعب وهو في سن السابعة والثلاثين. نعم هنالك أشخاص خارقون ويمتازون بجودة عالية بالرغم من تقدمهم في العمر. لكن كما يقولون “للعمر أحكام” ومن الطبيعي أن يقل عطاء اللاعب بتقدم عمره، فالألعاب الجماعية تتطلب جهداً من جميع أعضاء الفريق وإخفاق أحد الأفراد يؤثر على كامل الفريق، فهبوط الأداء في كثير من المباريات بشكل دراماتيكي في الشوط الثاني ناتج عن قلة المخزون اللياقي وهذا بلاشك له علاقة بعمر اللاعب. فمن البديهي أن ابن الأربعين لا يمكنه الركض كابن العشرين. الكثير من الفرق تعتمد على مبدأ المداورة للحفاظ على نفس النسق طوال المباراة وإعطاء الجميع فرصة المشاركة.

الدمج بين اللاعبين الشباب ولاعبين ذوي خبرة لفترة محدودة ضروري جداً لغرض قيادة الفريق والتعلم ونقل الخبرة بين الأجيال وضمان الاستمرارية في دائرة المنافسة، غير ذلك فإن وجود من تقدم بهم العمر يصبح حجرًا عثرة في طريق تطوير المواهب الشابة المتحمسة وحرمانها من أخذ الفرصة في تقديم إبداعها ومهاراتها، والبعض من تلك المهارات يفضل أن يكون كالطيور المهاجرة تحط رحالها أينما وجدت الفرصة خوفاً من تقدمها في العمر وبالتالي ضياع حلمها في تمثيل فريقها. أصبح وجود كثير من النجوم ممن كان يشار لهم بالبنان في ريعان شبابهم (عالة) على فرقهم وأصبح خروجهم مطلبًا جماهيريًا لعدم مقدرتهم على مواصلة تقديم نفس الجهد والأداء المطلوبين وإصرارهم على البقاء. تحامل البعض على إصابته تضحية جميلة يشكر عليها، لكن مواصلة اللعب بوجود إصابة فيه مخاطرة على سلامة اللاعب ويساهم في تذبذب مستوى الفريق لعدم تمكن المصاب من تقديم الأداء المطلوب بالإضافة إلى حرمان لاعب آخر يتمتع بجاهزية كاملة من اللعب والمشاركة.

الفريق منظومة إدارية وفنية شركاء في النجاحات والإخفاقات لذلك الخروج من الباب الكبير لا يقتصر فقط على اللاعبين، بل حتى الطاقم الإداري يجب أن يتنحى جانبًا إذا كان عاجزاً عن اتخاد قرارات مدروسة بعيداً عن التخبط والارتجال، قرارات عقلانية وجريئة مطلوبة لتصحيح مسار الفريق وتحقيق الأهداف المرجوة ومصالحة الجماهير. عدم المقدرة على العطاء والإضافة يتطلب التنحي وإعطاء الفرصة لطاقم إداري آخر يملك الخبرة، والمقومات والقدرة على إحداث التغيير الإيجابي والشغف، وتقديم خطة بديلة لتلافي تكرار نفس الأخطاء ومن ثم المضي بالفريق نحو تقديم مستويات مشرفة تليق باسم ومكانة الفريق. التنحي لا يعني التقليل من المقدرة الفنية والإدارية للأفراد بل ينم عن حرصهم التام على مصلحة الفريق والتي يجب أن تكون فوق كل اعتبار.

الجماهير تفرح لفوز فريقها كما تحزن لخسارته، وتتقبل النتائج بكل روح رياضية وتواصل المؤازرة، لكن الجماهير العاشقة والمتيمة تتألم كثيراً عندما ترى الفريق منهزمًا، وقد غابت عنه روح المنافسة والتي كانت دائمًا هي العلامة الفارقة. فمطالبة الجماهير بالتغيير مشروعة عندما تفقد الأمل ويخالجها الشعور بأن الكيان يتجه نحو السقوط وضياع الإرث الذي تعاقبت على بنائه أجيال. وإن كانت الجماهير متسرعة في مطالبها بعض الأحيان، فمن الضروري من المعنيين توضيح خلفيات وما يدور خلف الكواليس من أحداث أثرت وساهمت بشكل سلبي في هبوط مستوى الفريق. فالجماهير الراقية تفهم وتعي تفاصيل الأمور الرياضية.

قرأت أحد التعليقات في أحد المواقع الرياضية بعد انتهاء الكلاسيكو الأخير بين ريال مدريد وبرشلونة وكان انتقادًا شديد اللهجة لمدرب برشلونة، إذا ماراد تشافي هرنانديز الانتصارات والعودة بالفريق إلى منصات التتويج والابتعاد عن الإخفاقات وتلافي سخط الجماهير العاشقة فعليه الابتعاد عن المجاملات بالاعتماد على الحرس القديم (في إشارة إلى قدامى اللاعبين في الفريق) الذين انتهت صلاحيتهم كلاعبين من الطراز الرفيع. كل الاحترام والتقدير لقدامى اللاعبين على ما قدموه من تضحيات وإبداعات أطربت المتابعين لسنوات، لكن ليس من المنطقي إعطاؤهم الأولوية في المشاركة بسبب الأقدمية وتجاهل الجانب المهاري واللياقي. الرسام أندريس إنييستا – لاعب وسط نادي برشلونة سابقاً وصاحب هدف فوز منتخب إسبانيا بكأس العالم للمرة الأولى في تاريخها عام 2010 – يبلغ من العمر 38 عامًا اختار الخروج من الباب الكبير والبعد عن الأضواء وصخب الإعلام ومواصلة ركله للكرة بالانتقال إلى الدوري الياباني حيث سقف طموح وتوقعات الجماهير أقل بكثير مما هو عليه في برشلونة.



error: المحتوي محمي