أدبيات التعامل والعلاقات الاجتماعية

التعامل بيننا -نحن الإنس- على متن تلك المعمورة له نظام محدد نشأ منذ أن خلق الله -سبحانه وتعالى- آدم حتى يومنا هذا، وهذا النظام ولد من خلال عدة عوامل أهمها: الاحتياج المُلح والضروري لتبادل المصالح والمنافع المشتركة بين الناس بعضهم بعضًا، حتى باتت هذه المنافع مطلبًا لا يمكن الانسلاخ منه أو تجاهله بأي حال من الأحوال؛ فلا يمكن لنا أن نتصور إمكانية العيش لشخص ما بمعزل عن الآخرين، فالإنسان بطبيعته لا يألف الوحدة ولا طاقة له بالبعد عن بني جنسه بأي حال من الأحوال، بل إن من خصائص ذلك البشري بفطرته التي أودعها الخالق -جلت قدرته- بداخله ومشاعره منذ تكوينه ومرورًا بمسيرة حياته حتى يوم مماته أنه يأنس وتطمئن نفسه بالاندماج مع أقرانه من أبناء مجتمعه بشكل خاص وكذلك المجتمعات الأخرى البعيدة بشكل عام، وهنا نستدل على هذا القول من خلال قول الله -عز وجل- في محكم كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}. (سورة الحجرات الآية 13).

ومن خلال الآية المباركة نقطع الشك باليقين أننا كبشر لا يمكن لنا الاستمرار في المعيشة بشكل طبيعي إلا بالتفاعل مع من حولنا، مهما اختلفت جنسياتهم ولغاتهم وألوانهم فالتفاضل بين أبناء آدم عند الله لا يتحقق بواسطة العرق أو المال أو بالحسب والنسب، بل لا يقوم ذلك إلا بصلاح أمرنا وذواتنا والبعد بالنفس عن شرور غرائزها والسيطرة عليها وترويضها بما يتفق وفضائل المعاني التي جاء بها وحث عليها سماحة الإسلام العظيم من خلال ما أتى به رسول الرحمة محمد -عليه أفضل السلام وأتم التسليم- من تلك القيم والمبادئ الجمة التي تحمل في خضمها جميع المثل العليا من سمو ورفعة لتكتمل رسالة البشر بصورتها المثلى التي حددها القرآن الكريم بكل جوانبها الأخلاقية والإنسانية.

ولكن ومن خلال ما نعاصره في مسيرة حياتنا وكذلك ما تعرضنا له تجاه الكثير من مواقف وأحداث لاحصر لها بطبيعة الحال فإننا نجد البعض من أبناء ذلك العصر الذي نعايشه بما فيه من متغيرات كثيرة للغاية عما كنا عليه منذ عقد أو عقدين ونيف عن ذلك الزمن الذي وكما يحلو لجيل السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي أن يكنوه بالزمن الجميل ويتغنوا به لما فيه من حسن الطباع وطيب المعشر وكريم الصفات وسلامة النوايا والبساطة في العيش والمعاش الشيء الكثير.

وبعد أن مد الله -سبحانه وتعالى- في العمر وبارك في الذاكرة لذلك الجيل الموقر من تلك الحقبة المنصرمة، والتي تتميز بجميل الصفات حتى بلغوا من العمر لهذا الزمن الذي يحمل بين مكامنه متغيرات لا حصر لها سواء كانت سلبية أو إيجابية فليس هذا هو محط مقصدنا في هذه المقطوعة الصغيرة ولكن في حقيقة الأمر نعزو تلك المستجدات للعديد من العوامل، التي باتت جزءًا لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي لوقتنا الحاضر وبالتالي أصبح واقعًا فرض نفسه علينا ولكن بحسب ما يذهب إليه علماء الاجتماع أن هكذا متغيرات هي واقع لا بد منه وأن مواكبة تلك المستحدثات بمزاياها سواء أكانت صحيحة أم العكس من ذلك من ناحية النمط والسلوك وهنا وإن جاز لنا التعبير أن نطلق عليها (أي تلك المتغيرات) صفة (الكوننة) وهي أمر حتمي لأي مجتمع يتجه بشكل تدريجي نحو الانخراط والتداخل الطبيعي بين ثقافات كانت لوقت قريب لا وجود لها مطلقًا في بواطن عقولنا.

ونستطيع القول أن التغيير بحد ذاته لا ضير فيه بل هو وسيلة متبعة منذ تاريخ بعيد لتطور بني البشر على مر العصور وهنا لا يختلف أحد على ذلك النمط التقليدي الذي يعد من سمات الطبيعة البشرية لتحقيق أكبر قدر ممكن من مصالح مشروعة وضرورية فرضتها متطلبات لا غنى عنها لذلك الفرد الذي يمتاز بمجموعة خصائص لا يقوى على الانسلاخ منها كالأحاسيس والمشاعر والتي ليس لذلك الإنسان علاقة مباشرة لوجود تلك السمات، بل هي وجدت من خلال التكوين الفطري لذلك الكائن البشري.

نستنتج مما تقدم أن البشر مجبرون على التواصل والتزاوج والتعاون والتعارف فيما بينهم، ولكن هناك أطر محددة تقوم عليها تلك الأنواع من العلاقات الإنسانية، ولا يمكن الحياد عنها أو تجاوزها على الإطلاق، وفي حال حصل تجاوز ما فسيواجه بحرب ضروس أطرافها أناس ينتمون لأفكار تخضع لقيم ومبادئ هي محل إجماع لجميع الأطراف لتلك المجتمعات بالرغم من تعددها واختلاف ثقافاتها.

وبناء عليه يتضح جليًا وكما أشرنا في مطلع السطور بما يشير لذلك النظام الاجتماعي وبما يعني بالرقي بأذواقنا وتعاملاتنا في الأداء والتعاطي الحسن لجميع الجوانب، التي تستلزم علينا الالتفات والوجوب لأقصى أنواع الاحترام والتقدير تجاه الآخرين، وأن نظهر ما يجب إظهاره متى ما لزم الأمر ذلك، وأن نضع نصب أعيننا دومًا أن الدين المعاملة، فالإحسان بكل أحواله مكسب والتسامح لمن أساء إليك غنيمة، وإعطاء العذر للغير ولمن حولك راحة واطمئنان لذاتك أنت أيها الإنسان، وأن ثقافة حب الآخرين قيمة لا يعرفها سوى ذوي الفكر الراجح للصفوة من النساء والرجال، وأن نبادر بالشكر والامتنان لمن يقدمون لنا المعروف ومقابلة الإحسان بالإحسان، فهذا من نضج الخلق وزينة العقل وسمو النفس قال جل في علاه في(سورة الرحمن الآية 60): {هَلْ جَزَآءُ ٱلْإِحْسَٰنِ إِلَّا ٱلْإِحْسَٰنُ}.

نعم يجدر بنا ولكل من يحمل بداخله من الصفات الإنسانية أجملها ومن عذب الكلام أحلاه ومن الشيم كمالها ومن عظيم الصفات أجزلها وأرقاها ليكون هذا ردًا حسنًا للجميل، والذي يجب أن يكون أقرب لمعزوفة يتغنى بها المستمعون من حيث ألحانها وروعتها وإبداعها وهو الأفضل والأجود -لا شك- لنصوب بعد ذلك علاقات تكون في مجملها هادئة ورزينة يسودها ألفة ومحبة لتحقق ما يكفي من روائع العلاقات الإنسانية وأفضلها.



error: المحتوي محمي