صاحب مفارق

ورد عن رسول الله ﷺ: {مَنْ عَدَّ غَدًا مِنْ أَجَلِهِ فَقَدْ أَسَاءَ صُحْبَةَ الْمَوْتِ} (بحار الأنوار ج 74 ص 154).

يقدم لنا الرسول الأكرم ﷺ مجموعة من الحقائق المتعلقة بفهم الدور الوظيفي للإنسان، وما يحقق له تلك الآمال التي ينشدها وأهمها النجاح والسعادة، فالمدركات العقلية للإنسان هي السلاح الأقوى والأمضى في طريق تحقيق أهدافه وتطلعاته بما يحفظ له مصلحته، وأما إذا أصيب عقله بالملوثات والشبهات فلا شك في أن لها تأثيرًا خطيرًا وسوءًا محدقًا به، ومن تلك الآفات العقلية المشهورة، والتي يمكن لها أن تنعكس بنحو سلبي جدًا في طريقة تعاطيه مع الحقائق والأحداث، هي طول الأمل والاعتقاد بنحو جازم بأن عداد أيامه لن يتوقف غدًا، لذا عليه أن يجعله جزءًا من عمره ويوظفه ليكون مرحلة قادمة لتطلعاته وإنجازاته دون أدنى احتمال -ولو بسيط- بأنه سيلتحق بالراحلين دون سابق إنذار كمن سبقوه وغادروا الدنيا دون حدوث أي ضجيج!!

الأعمار قدرها الباري -عز وجل- لكل إنسان وفق حكمته التي نجهلها وتخفى علينا معالمها، فالتفاوت في الأعمار طولًا وقصرًا يغيب عنا إدراكه، مهما حاولنا جاهدين الإمساك بخيط الموضوع، فالآجال مفردة متعلقة بعالم الغيب الذي لا تتدنى له حواس الإنسان لمعرفته، ولذا فالمؤمن يجزم بها يقينًا ويعتقد بها من جهة معرفته بأن الله تعالى حكيم لا عبث في تدبيره، وعادل لا يجور على عباده ولا يظلمهم حتى بمقدار اللحظة من العمر، وتنكشف مثل هذه الحقائق الغائبة كالحكمة في تقدير الأعمار وتفاوتها في يوم انكشاف السرائر وهو يوم القيامة، وأمام هذه الحقيقة التي لا يمكن إدراكها فمن العبثية التفكير فيها وإشغال الذهن بأمر نتيجته معروفة وبعيدة عن أوهام عقولنا، و ما ينبغي الاهتمام به هو هذه النعمة الإلهية، وهي هبة الحياة وكيفية توظيفها في الهدف الأسمى وهو شكر الخالق في محراب الطاعة والعبادة، فالطهارة النفسية من ملوثات المعاصي هي ما تشير إلى فهم دقيق للمرء بالدنيا وما يعقبها من دار حساب ومجازاة، فتحول كل ورقة من أوراق أيامه إلى ميدان طاعة وعمل حثيث يتحمل فيه مسؤولية الجد والاجتهاد، وتنير فكره بحقيقة أن الموت لا سابق إنذار له فقد يقع في محطات وأوقات لا تخطر على باله.

النظر إلى الغد على أنه جزء مستحق للمرء ورصيد لا يمكنه التنازل عنه وهم كبير يضيع صاحبه، بل عليه متى ما فتح عينيه على يوم جديد أن يشكر الله تعالى على ذلك ويبدأ في اللحاق بميدان العمل والإنتاجية، وقد يقول قائل: إن هذه النظرة للمستقبل تعيق حركة العمل والتخطيط للأهداف المرجوة بل هي تعطيل للحياة المستقرة والسعيدة للإنسان، فأبسط المفردات في حياة الإنسان الناجح هو الطموح والتطلعات المستقبلية وتربص النتائج الجيدة لخطوات عمل على تنفيذها وانتظار الحصاد، والتفكير المستمر في الموت يباينه!!!!

والجواب على ذلك يتضح من خلال فهم النقطة التي يشير لها هذا الكنز النبوي بنحو التقييد لا الإطلاق، فالرسول الأكرم ﷺ لا يتحدث عن فكرة تشاؤمية ومرض نفسي وهو الفوبيا من مداهمة الموت، والتي تعني الهلاك للبشرية وحرمانهم من الاستمتاع بلحظاتهم الجميلة ما داموا تحت رحمة الفكرة المسيطرة عليهم وهي الموت في أي لحظة، وإنما هو تذكير للإنسان المزدحم بالمشاغل الدنيوية، ونداء للباحث عن زخارف الدنيا وتحقيق الثروات فيها بأنه لا يملك تأمينًا حقيقيًا لوجوده في كل مراحل التطلع المستقبلي، فالموت حقيقة وجدانية لا مفر منها، وعليه من خلالها أن يبني شخصيته التكاملية التي تحمل فكرة الوجود المؤقت في الدنيا، إذ لو اعتقد الظالم غيره والسارق والكاذب والطماع بأنه يعمل فيما لا يملك وسينزله قطار الدنيا في المرحلة المحددة إلهيًا لرحيله لما أقدم على ذلك، بل ضعفت بصيرته واختفى عنه محاسبة نفسه وجوارحه، فكانت النتيجة أن غلّفت الغفلة عقله، ونسي أن يستعد لذلك اليوم العظيم الذي لا يغادر فيه صغيرة ولا كبيرة في صحيفة الأعمال.

كما أن الثقة الزائدة بثبات حاله والبعد التام عن مصادر الخطر كالمرض وغيره، يجعله في حصانة تامة من الرحيل، وينسى هذا الجاهل أن توقف عجلة الحياة بالنسبة له لا يتدخل فيها عامل المكنة والاقتدار {و لو كنتم في بروج مشيدة}، فهناك من كان في أحسن أحواله البدنية وتثقل خطواته الأرض، وإذا هو قد رحل فجأة بلا سابق إنذار، بينما ذلك الشخص الذي امتد به المرض وأيقن من حوله برحيله دبت الحياة في مفاصل جسمه مرة أخرى، أفلا تكون تلك المشاهدات شبه اليومية عامل يقظة لنا تسعفنا في الاستعداد للقاء الله -عز وجل- ومحاسبة أنفسنا قبل أن نحاسب، فهذه اليقظة هي الصحبة الجميلة للموت، بينما الغفلة صحبة سيئة للأجل.



error: المحتوي محمي