أنت في المنزل ونسيت أن تجلب خبزًا من المخبز، فهناك بعض من الخبز المجمد نتركه ليذوب لنتمكن من إعداده لوجبة العشاء، هذا السلوك أفقدنا الإحساس برائحة الخبز الطيبة والطعم الطازج الذي ذهبت به ثقافة “الحفظ” وضاعت في زحمة الحياة، وجعلت مذاق الخبز غير مستساغ.
إن استهلاك الخبز الذي تمت إذابته بعد التجميد هو أمر شائع بسبب إيقاع الحياة السريع، وتغير أنماط الاستهلاك الغذائي. طزاجة الخبز من العوامل التي تسهم في الحفاظ على نكهته المميزة ومحتواه من العناصر الغذائية المقترنة بالصحة الممتازة. ولو تساءلنا أيهما أكثر فائدة للصحة تناول أطعمة طازجة أم محفوظة؟ أم كليهما معًا؟ من الطبيعي أن الطعام المحفوظ كان في الأصل طازجًا، لكن حفظه أو مروره بمراحل التصنيع المختلفة نتج عنه تغيير في التركيبة الغذائية والصحية.
الأطعمة الطازجة -على اختلاف مصادرها وأنواعها- هي غذاء ودواء في وقت واحد، فهي تحتوي على مجموعة كبيرة من العناصر الغذائية، وتضفي هذه الأغذية على الجسم النشاط والحيوية، وتساعد على الشفاء، بينما الأطعمة المحفوظة مشحونة بالكيماويات التي شكلت خطرًا على الصحة. وتأكد علميًا أن تناول الأطعمة الطازجة يدعم صحة الإنسان ويقويها لما تحتويه من مواد نافعة، وكثيرًا ما ينصح اختصاصيو الغذاء والأطباء وذوو الثقافة الصحية بتناول كل شيء طازج مملوء بعناصر النمو والمشبع بنور الشمس؛ نظرًا لما تحويه من العصارات الحية، وعلى النقيض تمامًا من تلك النصيحة تجد أهل الغذاء والأطباء ينصحون بالابتعاد عن الأغذية المحفوظة أو المعالجة والتي ليس لها فعالية غذائية، لما يترتب على تناولها أضرار صحية، إنها من سلبيات الزمن المعاصر، وأمام هذه الملاحظات تتضح أهمية الأغذية الطازجة.
إن تجميد الأغذية ظاهرة فيزيائية تتعرض فيها المحتويات المائية الموجودة في خلايا الأنسجة الغذائية إلى التصلب بفعل درجات الحرارة المنخفضة (18 °س تحت الصفر) وبذلك تتوقف كافة الأنشطة الكيماوية والحيوية للإنزيمات الموجودة في هذه الأنسجة، وتزيد من الفواقد في العناصر الغذائية. ولا شك في أن التجميد من الطرائق الآمنة لحفظ الأغذية الطازجة، ووسيلة مهمة للحد من خطر التسممات، وتعتمد على إطالة فترة الحفظ بحيث يتجمد المحتوى المائي للغذاء فيصبح الوسط غير ملائم للنمو الميكروبي أو لحدوث التفاعلات الكيميائية، وهذا لا يعني حفظ الأغذية إلى ما لا نهاية على درجات الحرارة المنخفضة، فبمرور الوقت تفقد الأغذية جودتها بسبب حدوث التفاعلات الكيميائية.
بقاء الإنزيمات في الأغذية المجمدة لفترة طويلة، يفقدها القيمة الغذائية ولونها وقوامها وطعمها بعد إزالة التجميد منها. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل زيادة نشاط الخمائر أو الإنزيمات في النشويات مثل الأرز والمكرونة والبطاطس والخبز، يرفع مستوى السكر في الدم؟ هناك دراسة قامت بها جامعة إكسفورد بروكس – المملكة المتحدة ونشرتها European Journal of Clinical Nutrition (2008)، شملت الدراسة عشرة أشخاص (ثلاثة ذكور وسبع إناث) تتراوح أعمارهم بين 22 و59 عامًا، تم تقديم خبز أبيض بشروط مختلفة للتخزين والتحضير: طازج، مجمد ومذاب، محمص، تحميص بعد التجميد والإذابة، والنتيجة: أدت ظروف التخزين والتحضير المختلفة إلى انخفاض قيم منحنى استجابة الجلوكوز في نسبة السكر في الدم للخبز الأبيض، ومهما كانت النتائج فالخبز الأبيض من الأطعمة ذات المؤشر السكري “الجلايسيمي” المرتفع أكثر من 70 ويتم هضمه وامتصاصه بسرعة، وبالتالي يكون تأثيره على رفع مستوى السكر في الدم أعلى، أما الآثار المترتبة على هذه الدراسة فهي ذات شقين:
أولًا: التوصية المقترحة بأن تجميد الخبز الطازج، قد تغير استجابة نسبة السكر في الدم للخبز الأبيض بشكل إيجابي؛ وبالتالي لا يلزم أن يكون الخبز الأبيض غذاء ذا قيمة غذائية أو عالي الجودة.
ثانيًا: تشير نتائج الدراسة إلى أن التعامل مع الخبز المجمد كغذاء مرجعي، سيكون من الصعب استجابة نسبة السكر في الدم بسبب مجموعة من العوامل تعمل بشكل مستقل أو معًا، منها التباين بين الأفراد، وتقييد ممارسة الرياضة، والصيام، والوقت الذي يقضيه في مضغ الطعام، وكان من قيود هذه الدراسة التقدير غير المباشر لمحتوى الكربوهيدرات المتاح في الخبز.
هذه الدراسة لا نزكيها وتعد معلوماتها قديمة مضى عليها حوالي 14 عامًا ولا يصح الاستشهاد بها كدراسة علمية معتمدة، فقد حدث خلال تلك الفترة تغييرات ومعالجات وتحسينات مستمرة في طريقة تصنيع المخبوزات، كما أن كثيرًا من الدراسات بحاجة إلى تمحيص وإعادة نظر، فكم من دراسة أُقرت من الجهات الرسمية أو التشريعية، ثم بعد سنوات وجد أنها لا تتوافق مع الدراسات الحديثة. إن عملية تجميد الخبز وفك تجميده يتطلب مروره عبر هذه النقطة من إعادة التبلور القصوى والتراجع مرتين، مرة أثناء التبريد ومرة أخرى أثناء الإذابة، أظهرت الاختلافات الصغيرة نسبيًا في استجابة نسبة السكر في الدم لأطعمة النشا المستهلكة بانتظام.
ولا شك في أن تجميد الخبز مغلفًا في الفريزر عند حوالي (18 °س تحت الصفر ) يترتب على ذلك وقف النشاط الإنزيمي الذي يحول النشا إلى سكريات بسيطة، وهو مطلب حيوي لكل كائن حي؛ لكن الخبز الذي نأكله اليوم يمر بمراحل عديدة قبل أن يصل إلى أفواهنا. إن مكونات الخبز الطازج لم تبق هي نفسها: (دقيق القمح، الماء، الخميرة، والملح) فقد تم إدخال مواد حافظة ومدعمة ومستحلبات ومبيضات ومحسنات ومثبطات الفطر وإضافات كيميائية أخرى لأغراض كثيرة، للحفاظ على النكهة أو تحسين الطعم وإطالة فترة صلاحيته، ومهما تباينت آراؤنا حول المعالجات العصرية، فقد أصبح من الصعب تجنُّب استخدامها اليوم، حيث إنها دخلت كجزء من نظامنا الغذائي.
ويمكن القول إن نشويات الحبوب ضرورية ولا تسبب السكر وقد يحدث أحيانًا، ولكن كيف يحدث هذا؟ ولماذا؟ ومتى؟ ونجيب: يسود اعتقاد خاطىء لدى الكثير من الناس أن سبب ارتفاع سكر الدم هو الخبز الذي يشكل أهم عنصر أساسي بين الأطعمة النشوية، وهو بذلك يمنع عن مرضى السكري، صحيح أن الخبز من النشويات إلا أن النشويات لا تمنع عن مرضى السكري، وهذه النظرة كانت قديمة وما زال بعضهم يرددها وقد تغيرت منذ زمن طويل، والصحيح أن مريض السكري عليه أن يأكل حوالي من 55% إلى 60% من السعرات الكلية من النشويات أكثر من بقية الناس، فالجميع في حاجة إلى فوائدها؛ لذا فقد أوصت جمعية السكري الأمريكية مريض السكري بأن يأكل الكميات نفسها الموصى بها لجميع الأصحاء من الناس، والمخبوزات مصدر مهم لها، ولكن لا بد من ضبط الكمية الكلية لأكلها. ويمكن أن يتناول الشخص مريض السكر الخبز الأبيض الطازج بنسب قليلة، لأن التوقف عن تناوله يعني الحرمان، كذلك ينبغي التأكد من تناول كميات مناسبة، وليس بكميات ضارة بالطبع، المهم في الأمر أن تكون الوجبة متوازنة.
الأطعمة النشوية المصنوعة من الطحين الكامل التي تؤكل مع قشرها خيار جيد بشكل خاص إذا كنت تعاني من داء السكري، فالخبز الأسمر يحتوي على كميات كبيرة من الألياف تسهم في الحماية من سرطان القولون كما تخفض السكر في الدم. عليك أن تختار من أصناف الخبز التي تحتوي على حبوب القمح الكاملة كخبز البر العادي والخبز المضاف إليه نخالة، وخبز النخالة أقل في محتواها من السعرات الحرارية من الخبز الأبيض، وخبز النخالة عادة ما تكون فيه نسبة النخالة مرتفعة جدًا قد تصل إلى 50% في الأنواع الخاصة، فهو مفيد بإذن الله.
من هنا فإن الدراسة تركزت على الخبز الأبيض الأكثر رواجًا، المنتج من دقيق القمح منزوع القشرة (75% من أصل حبة القمح)، وما نراه هو تهافت الناس على شراء هذا الصنف والذي يبدو شكله أشهى على الرغم من أن بياضه الناصع ناجم عن إضافة مواد كيميائية إليه. وبالنظر إلى الاستهلاك المرتفع للخبز الأبيض، فإن تحديد طرق لتقليل استجابة نسبة السكر في الدم أمر مهم في الوقاية من الأمراض المزمنة والتعامل معها. ولكن ما يهمنا هنا هو التفريق بين الخبز المصنوع من القمح الكامل “لم يضف إليه ولم يسحب منه أي عنصر” والخبز الأبيض الذي دخلت عليه مكونات كيميائية.
ما الذي يدعونا إلى التوقف أمام دراسة فيها الأدلة العلمية والبراهين غير كافية؟ نشر مثل هذه الدراسة التي تفسر علاقة تجميد الخبز الأبيض بانخفاض سكر الدم لا تفيد في الجانب الصحي، وعلى المتخصصين في مجال الغذاء والتغذية والمهتمين بالصحة عمومًا حماية المستهلك، وتثقيف الفرد والمجتمع من خلال اختيار الأفضل من المعارف والدراسات الموثوقة لنشرها لكي تعود على الناس بالفائدة الصحية والسلامة الغذائية، إلا أن الشيء المؤسف أن تطرح دراسات خجولة ونتائجها غير مرضية تلقي بألف علامة استفهام ويتم الترويج لها، ولا يمكن أن تشكل دراسة واحدة أساسًا لتغيير السياسة العامة، وهي لا تعني النفي المطلق لصحتها، ولكن الأمر يحتاج قبل إثباته أو نفيه فريقًا علميًا معتمدًا على عدد كبير من التجارب بطرق علمية أدق بكثير مما تم في تلك الدراسة. ونحن نضيف إلى ذلك أمرًا وهو أن المعايير التي تم الاعتماد عليها في الدراسة غير مقبولة أو ضعيفة ولا يعوّل عليها علميًا لبناء حكم كهذا.
الخبز العصري الذي تم تجميده يعد من الأطعمة الميتة، ويعني خلوه من العصارات الحية والعناصر الغذائية الأخرى، وإن هدف وضع الخبز في الفريزر هو لحفظ الخبز من التغيرات الحسية، وقد يكون منطقي لفترة قصيرة، لكن أن تثبت الدراسة أن تجميد الخبز الأبيض يفقده جزءًا كبيرًا من الكربوهيدرات والنشويات والسكريات والتي يعتقد بأنها المسؤول الأول عن زيادة السمنة والسكري؛ هو سلوك ساذج، وقصير النظر، فلسنا بحاجة إلى وضع الخبز في الفريزر بهدف تقليل استجابة نسبة السكر في الدم، كون الخبز الطازج المصنوع من القمح الكامل مليئًا بالألياف الغذائية، ويوصف لجميع فئات المجتمع وخصوصًا مرضى السكري، بينما الأصناف الأخرى من الخبز العصري دخلت عليها مكونات أفقدته الكثير من الخصائص الغذائية والصحية.
أعجب حقيقة لأولئك الأشخاص الذين نجدهم يقبلون على شراء كميات كبيرة من الخبز ويتم حفظها في الفريزر بحجة عدم وجود وقت للذهاب للتسوق بشكل يومي، فعند شراء كميات من الخبز أكثر من حاجتنا اليومية، نضطر إلى وضعه في الثلاجة حتى لا يفسد (يجب ألا تزيد مدة حفظه عن 3 إلى 5 أيام) ولكن أن نضع الخبز في الفريزر المغلف بأكياس النايلون لفترة طويلة لحين الحاجة إليه، هنا يفقد الخبز الطازج بعد تجميده خصائصه الغذائية، وإن كان طعمه لا يتغير، وهذا أمر يحدده من يتناوله، ولذلك يشعر بعض الناس بعدم وجود أي تغيير وكأنه طازج، لكن هل كل ما نعتقد صحيح، أم أن هناك حقيقة خافية وغير معلومة لدى العامة؟
إن النصيحة الدائمة في استعمالنا للأغذية حتى نحصل على فوائدها، تكون باللجوء لطبيعتها الطازجة، وحتى أحسن التشريعات والدراسات التي تقر بسلامة ومأمونية هذا الغذاء أو ذاك، لن تحمينا من سموم التقنيات الحديث، لقد بدأ المتسوقون يتجنبون الأغذية المصنعة المعروضة في مراكز التسويق بعد أن شهد الناس تفشي الأمراض نتيجة استخدام المضافات الاصطناعية والمعالجات الجينية والإشعاعية والكيميائية.
بنظرة عامة يمكن أن نقيّم طريقة حفظ وتخزين الأغذية بأنها جائرة بمعنى أنها تفقد الأغذية قيمتها الغذائية، لذا ينصح دائمًا بالابتعاد قدر المستطاع عن الأغذية المحفوظة، والحرص على تناول الأغذية الطازجة كونها متكاملة في القيمة الغذائية. وما يجعل الطعام جيدًا أو سيئًا هو حفظه لفترة طويلة وقد لا نحسن الحفظ، فلا تجعل النمط الاستهلاكي العصري عبئًا ثقيلًا على صحتك.
وأخيرًا، ولكي يتقبل الناس خبز البر أو النخالة الأقل طعمًا أو بمعنى آخر كيف تجعل الخبز البر أو الأسمر الغني بالألياف ألذ طعمًا؟ إليكم أقدم هذا الرغيف البلدي الشهي: أضف إلى مكونات الخبز الأربعة المعروفة حبة البركة والتمر والهيل والزعفران، هذا الصنف الذي يعرف بـ “الخبز الأحمر” وقد اشتهرت به الأحساء الذي يخبزه الخبازون في المخابز المنتشرة هناك، ويلقى إقبالًا كبيرًا من أهاليها كونه يتميز بمذاق طيب وشهي تفوح منه رائحة زكية تُشبعُ النّفس عندما يكون طازجًا.
في الماضي عندما كنا صغارًا نأكل الخبز العربي الأصيل كبير الحجم بعد إخراجه مباشرة من التنور ساخنًا من يد خباز شاطر، قبل أن يصل البيت، له رائحة ونكهة مميزتان، يملأ حاسة الشم والتذوق، لذيذ ومشبع، نجده ألذ من الشهد، ولا يزال أغلب الناس في مجتمعنا تفضله على الخبز الإفرنجي، وها أنتم أولاد الثلاجات والفريزرات تفضلون الخبز العصري على الخبز الشعبي ومع هذا تصابون بأمراض لا علاج لها.
منصور الصلبوخ – أخصائي تغذية وملوثات