تسافر أمكنةً كثيرة، تنتقل من دارٍ إلى دار، طبيعي جدًّا، لا تشعر بغربة! وأحيانًا أنت في مكانك تشعر بأنك صرتَ غريبًا على الزمان وصار الزمانُ غريبًا عليك! ترى أشياءً وتسمع أخرى، تشعرك بأنك غريب. تقول: معقول يا ناس؟ أهكذا يتسارع الزمان ويصيب رؤوسنا الدوار، حتى يتمنى الإنسانُ أن يكون له غار أو جحر يختبئ فيه ويقضي ما بقيَ من سنواتِ العمر؟!
فرَّ أصحاب الكهف بعيدًا بأرواحهم. عاشوا سنوات في الكهف، ثم خرجوا فوجدوا أنفسهم غرباء عن مجتمعهم. حينئذٍ كان خلاصهم وراحتهم في موتهم.
عاش يوسف (عليه السلام) غريبًا عدة سنوات في السجن حين أصروا عليه أن يستسلم لشهوة امرأةِ العزيز الجميلة، وإلا فالسجن الموحش المظلم سيكون في انتظاره. زاد في صموده وقال متوجهًا إلى ربه العظيم: {رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِىٓ إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ ٱلْجَٰهِلِينَ}.
خطب الإمام علي (عليه السلام) في النّاس، ثم التفت يسأل عن ثلة من أصحابه وعددهم بأسمائِهم واحدًا واحدًا: “أين فلان؟ أين فلان؟ هو – وحقكم – صارت روحه غريبة بعد أن ذهب من كان يسأل عنهم ومن كانوا له خلّصًا!
تغتَرب الروح وتنزح عن الجسد فيصبح الجو باردًا! تصير الجمادات أقرب إلى الإنسان من الإنسان! خرج الإمام علي إلى الصحراء فتبعه صاحبُه ميثم. رآه فخطّ له خطّة وقال له: يا ميثم، إياكَ أن تجاوز هذه الخطّة ومضى. كانت ليلة مدلهمة فقال ميثم: يا نفسي أسلمتِ مولاك وله أعداء كثيرة أي عذرٍ يكون لك عند الله وعند رسوله؟! والله لأقفنّ أثره ولأعلمنّ خبره وإن كان قد خالفتُ أمره، وجعلت أتبع أثره فوجدته مطلعًا في البئرِ إلى نصفهِ يخاطب البئرَ والبئر تخاطبه فحسّ بي، والتفت (عليه السلام) وقال: من؟ قلتُ: ميثم، فقال: يا ميثم ألم آمركَ ألا تتجاوز الخطّة؟ قلت: يا مولاي خشيتُ عليك من الأعداء فلم يصبر لذلك قلبي، فقال: أسمعتَ مما قلتُ شيئًا؟ قلتُ: لا يا مولاي فقال: يا ميثم:
وفي الصدرِ لباناتٌ * إذا ضاقَ لها صدري
نكتُّ الأرضَ بالكفِّ * وأبديتُ لها سرّي
فمهما تنبت الأرضُ * فذاك النبتُ من بذري
قال الصادق (عليه السلام): إن الله عزّ وجلّ أوحى إلى نبيٍّ من أنبياء بني إسرائيل: إن أحببتَ أن تلقاني غدًا في حظيرةِ القدس، فكن في الدنيا وحيدًا غريبًا مهمومًا محزونًا مستوحشًا من النّاس، بمنزلة الطيرِ الواحد الذي يطير في أرضِ القفار، ويأكل من رؤوسِ الأشجار، ويشرب من ماءِ العيون، فإذَا كان الليل آوى وحده، ولم يأو مع الطيور، استأنس بربه واستوحشَ من الطيور.
إذن، لا تتعجب، عمرك ليس أكثر من عشرين، ثلاثين، أربعين، قد تكون غريبًا! نحن أبناء الجيل القديم – أكثرنا – في غربة، صارت حركة الزمن وما أدراك ما حركة الزمن أسرع من خطانا، وأسرع من حركة أدمغتنا!