أستحضر في يوم المعلم تلك الفترة التي كنا نجلس فيها بين يدي “الملا” في بيته “عشته” أو المسجد أو الحسينية المجاورة والمصاحف في أحضاننا، سواء نحن من كانت المدارس موجودة في زماننا، أو من هم قبلنا ممن لم تكن المدارس موجودة وقتهم.
أستحضر الفترة لحظة بلحظة ووجه ملا هلال -رحمه الله- أمامي الآن بتقاسيمه البهية والحبر الأزرق الغامق يسيل خلسة من قلمه وسط جيبه، ولعله لم يحكم الغطاء عليه، أو لعله للتو انتهى من كتابة الآيات في “الطاسة” أو “الفنجان” لاستشفاء أحد المرضى أو كتب ما تيسر له على ورقة لِتُلف وتعلق على زند طفل أو طفلة حرزًا من عيون الحسد.
وهو لا يغفل بالرغم مما يشغل يديه عن الاستماع لنا وتصحيح أخطائنا أفرادًا أو جماعة، ولا أذكر أنه وبخنا أو ضرب أحدنا بالعصا والتي لا أذكر أنه حملها ذات يوم، فقد كان يقطر طيبة ومحبة، وربما اكتسب ذلك من معلمه الأول وهو معلمي الأول والأجمل أيضًا والدي الملا عبد الله عليه الرحمة والرضوان، ولا أستبعد أنها صفة من صفات الملا هلال ومعدنه، ولا غرابة في ذلك.
ولقد عايشنا جيلًا من الأباء والرجال كانوا معلمين قولًا وفعلًا، فليس شرطًا أن يكون المعلم هو فقط من امتهن التعليم سواء الكتاتيب أو المدارس والجامعات، فكم من إنسان كان له الفضل الجزيل في التعليم والتهذيب وإسداء النصيحة، والتي ربما فتحت الآفاق أمام أحدنا ليشق طريقه في الحياة بفضل كلمة واحدة.
أتذكر حالتين كمثالين لذلك من أخي وأستاذي أبي حاتم الوجيه عبد الهادي الزين؛ أولاهما عندما كنت أشق طريقي في المدرسة وهو يقول مرة: إذا رأيت قصاصة ورق في الطريق وخاصة من جريدة أو كتاب فلا تهملها، بل ارفعها واقرأ ما فيها فلعلك ترى فائدة تلتصق بك طوال حياتك وتستفيد منها كلما تذكرتها، الأمر الذي جعلني مع الأيام والسنين أركض وراء الصحف وبعض المجلات النافعة أولًا بأول، ومن مصروفي الخاص الذي أجمعه أحيانًا أو أطلب من أبي ما يكفي لشراء مجلة العربي بالذات.
والأمر الآخر حينما أخفقت في تجاوز مرحلة الأول متوسط ضخ في نفسي الإصرار بالرغم من شدة أسلوبه ذلك الوقت على ألا أفقد الأمل بل علي المثابرة وسوف أتجاوزها، ولحسن الحظ تجاوزت الأول متوسط دون أن أعيد السنة، فلقد كنا ندرس مادة اسمها الرسم الهندسي وقد ألغيت فاعتبروني ناجحًا وعبرت للصف الثاني والحمد لله، وظل يلاحقني كل مرة بألا أفقد الأمل، وسوف أصل لما أريده وأحلم به، وهو إلى الآن يذكرني كلما مرَّ بنا الحديث وبابتسامته المعهودة كيف كنت وكيف أصبحت ولله الحمد، تمامًا مثلما كان يرسم لي، وهو ما طبقه على أبنائه أيضًا. ولا أنسى كمية الكتب القيمة التي في مكتبته، وما نهلت منها وقد استوليت عليها لاحقًا أثناء دراسته في الخارج وفتحت لي آفاق المعرفة والثقافة.
لذا أقول: إن المعلم ليس فقط هو من ندرس على يديه القرآن، أو نفهم منه الكتابة والقراءة وسائر العلوم في المدارس، بل هم هؤلاء أولًا وأخيرًا.. من عرفنا منهم تعاليم الحياة والدين والسلوك والعادات والتقاليد والفضائل وتابعونا أولًا بأول حتى في مراحل دراستنا.
نعم، نقر بأن ذلك لا يكفي، فدور المدارس كان ولا زال عظيمًا بالرغم من قسوة ما كنا نعانيه شتاء وصيفًا، وما واجهناه من غلظة بعض المدرسين -رحم الله من مضى منهم وحفظ من بقي- خاصة تلك الخيزرانة الطويلة، ولا أدري إلى الآن لماذا عود الخيزران بالذات ومن أين كانوا يأتون به، ذلك الذي كان يلفح صفحة أيدينا وخاصة في فصل الشتاء مع شدة البرد، ولا سبب مقنع سوى التأخر لدقائق عن الطابور، ليخرج أحدنا وينال جزاءه من الضرب المبرح أمام جميع الطلاب، ولربما ينال وجبة أخرى من الضرب داخل الفصل لأنه لم يحل الواجب أو لم يجب الإجابة الصحيحة على سؤال، أو أنه نسي علكة في فمه اشتراها في الفسحة فقبض عليه المدرس بالجرم المشهود.
كبرنا وتعلمنا واشتغلنا وتزوجنا وصارت لنا بيوت وتقدمت بنا الحياة في مختلف الاتجاهات بفضل الله تعالى، ومنا من لم تسعفه ظروف الحياة لإكمال المسيرة، ولكن لا زلنا نذكر اللحظة بعد اللحظة والفضل إثر الفضل ونحفظ كل ذلك حفظ الدَّين في الرقاب لمدرسينا الأوائل.. الأباء والأمهات والإخوة والأخوات، وللملالي والمدرسين، فلولا هؤلاء لأعتمت الدنيا في وجوهنا، ولما تغيرت الحياة وأصبحت على ما هي عليه الآن في كل أنحاء الأرض من تقدم وازدهار مطرد لا تكاد تستطيع ملاحقته.
ومحظوظ جدًا من بدأ تعليمه بالقرآن الكريم وانتهج نهجه.
وأول الدروس: “ألف لا شي له، الباء نقطة من تحت، التاء نقطتان من فوق والثاء ثلاث نقاط من فوق والحاء لاشي له، والجيم !!!”.
صحيح الجيم وين النقطة تكون؟
في يوم المعلم نقول: إنهم لم يموتوا، وكيف يموتون وكل ما لدينا بدأ بهم ومنهم وينتهي عندهم جزاءً وشكورًا بفضل ربهم الكريم.
رحم الله أبي
وحفظ أخي
ورحم الله ملا هلال