وقفة مع كاتب
في المقال السابق كان الرد على أصحاب الإشكال الخامس حول فكرة الإسراء وبالأخص الدكتور يوسف الزيدان فقد رددنا عليهم بالنقاش العلمي، وبيّنا للقارئ الكريم المقصود بالمسجد الأقصى والمسجد الأدنى، وأما اليوم فستكون لنا وقفة مع كاتب وكتاب (من لا يحضره الفقيه) للشيخ الصدوق ج 1 / ص 233، فقد أورد المعلق العلامة الشيخ علي أكبر الغفاري في الهامش، ما يلي:
(ولا ريب في فضل بيت المقدس لأنه مسجد بناه نبي من أنبياء الله تعالى، ولا شك في كونه قبلة للمسلمين بضعة عشر شهرا، وإن لم يرضها النبي صلى الله عليه وآله كما يفهم من الآية الكريمة (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا )، لكن لما كانت هذه الأخبار كلها من طرق العامة، وليس في أخبار الإمامية من طريقهم منها شيء يعتمد عليه، كيف نطمئن إلى ما رووه من هذا الفضل الكبير مع أنّ الكليني – رحمه الله – عقد في كتابه الكبير الكافي أبوابا في فضل المساجد، وذكر فيها فضل المدينة ومسجد النبي ومسجد قبا ومسجد الفضيخ ومسجد الفتح ومسجد الأحزاب ومشربة أم إبراهيم ومسجد غدير خم ومسجد الكوفة والمسجد الأعظم ومسجد السهلة ومسجد بالخمراء وغيرها من المساجد، ولم يرو فيها في فضل بيت المقدس شيئا، نعم: روى بإسناده عن إسماعيل بن زيد مولى عبد الله بن يحيى الكاهلي عن عبد الله بن يحيى عن أبي عبد الله ( ع ) قال : جاء رجل إلى أمير المؤمنين صلوات الله عليه فسلّم فرّد عليه ، فقال : جعلت فداك إنّي أردت المسجد الأقصى فأردت أن أسلّم عليك وأودّعك، فقال له: وأي شيء أردت بذلك ؟ فقال: الفضل، قال: فبعْ راحلتك وكلْ زادك وصل في هذا المسجد (مسجد الكوفة) فإن الصلاة المكتوبة فيه حجة مبرورة والنافلة عمرة مبرورة والبركة فيه على اثنى عشر ميلا – الحديث ” ج 3 ص 491)، كيف كان قاعدة التسامح في أدلة السنن تسهل الامر. فمن صلى في بيت المقدس التماس ذلك الثواب يعطيه الله سبحانه وتعالى إن شاء الله وإن لم يكن الحديث كما بلغه.
بعد أن استعرضنا وتأملنا ما أورده الشيخ علي أكبر الغفاري في الهامش وتعليقته حول حادثة الإسراء برزت لنا بعض الملاحظات التي ينبغي عرضها للقارئ الكريم والرد عليها وهي :
1ـ ذُكِرَ في كتاب (البداية والنهاية 3 / ٣٠٩) بأنّ هناك شبه اتفاق بين العلماء في تفصيل المدة الزمنية لاتجاه المسلمين نحو القبلة الأولى أي بيت المقدس، فقد قُدّرت بما يقرب من سبعة عشر شهرًا، أي سنة واحدة وخمسة أشهر، وهذا ليس اشكالا، وإنما هو عرض لمعلومة فقط.
2ـ قوله: وإنْ لم يرضها النبي صلى الله عليه وآله كما يفهم من الآية الكريمة (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا …)
أقول: إنّ رضا النبي (ص) عن القبلة الثانية لا يدلّ على عدم رضاه عن القبلة الأولى، أي عدم مفهوم الوصف في مصطلح علم الاصول، ولو لم يرض النبي بالقبلة الأولى فهذا يعني بأنّه لم يكن عند النبي رضا نفسي والمفروض تمام الرضا في نزول الاحكام الشرعية من الله، وإلا يعد نقص في شخصية الرسول (ص) والعياذ بالله، والصحيح هو أن رضا الرسول (ص) له شقان، رضا ناقص – إن صح التعبير – وهو رضاه للقبلة الاولى، ورضا كامل وهو للقبلة الثانية، وعليك بقية الكلام.
3ـ قوله: لكن لما كانت هذه الأخبار كلها من طرق العامة، وليس في أخبار الامامية من طريقهم منها شيء يعتمد عليه …
أقول: لو بحث في أخبار الإمامية قليلاً لاكتشف أنّ في فضل بيت المقدس أخبارًا كثيرة، وقد بيّنا فيما سبق بعض الشرف لبيت المقدس، وسنذكر في آخر هذا الموضوع حول الأخبار، ولو فرضنا عدم وجود الأخبار في فضله فإن القرآن الكريم قد أبرز ذلك الفضل في عدة مواضع ويقدم على الاخبار، كقوله تعالى (… باركنا حوله لنريه من آياتنا …)، وكذلك على قول بعض المفسرين (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً)، وكذلك أيضا (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ )، وهذا الذي ذكره الشيخ الغفاري غفلة منه عن القرآن الأصلي الناصع بهيمنة الروايات المملوءة بالضعاف والموضوعات.
4ـ قوله: كيف نطمئن إلى ما رووه [أهل السنة] من هذا الفضل الكبير، مع أنّ الكليني عقد في كتابه الكبير الكافي أبوابا في فضل المساجد … ولم يرو فيها في فضل بيت المقدس شيئا.
أقول: على فرض عدم ذكر الكليني لفضل بيت المقدس نسأل هل الكليني رجل معصوم لا يخطئ؟!، بمعنى هل عدم ذكر بيت المقدس هو الحجة علينا؟!، فالمطلوب منا هو البحث المنصف وليس البحث العاطفي الذي يُبَعد فكرة بيت المقدس من ذاكرة المسلمين.
5ـ قوله للرواية: جاء رجل إلى أمير المؤمنين صلوات الله عليه فسلم فرد عليه، فقال: جعلت فداك إنّي أردت المسجد الأقصى …
أقول: ذكرت فيما سبق بأنّ هذه الرواية ضعيفة جدا سندًا ومتنًا.
6ـ قوله: كيف كان قاعدة التسامح في أدلة السنن تسهل الامر. فمن صلى في بيت المقدس التماس ذلك الثواب يعطيه الله سبحانه إن شاء الله وإن لم يكن الحديث كما بلغه …
أقول: كأنّما أراد الكاتب دغدغة عواطف القارئ بدون تحقيق، ففي الواقع توجد روايات معتمدة عند الفقهاء يفتون بها في فضل الصلاة في المسجد الأقصى، في كتب أخرى غير كتاب من لا يحضره الفقيه، كـ(منهاج الصالحين، للسيد السيستاني ج ١ / ص ١٨٧): أفضل المساجد، المساجد الأربعة، وهي المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وآله والمسجد الأقصى ومسجد الكوفة، وأفضلها الأول ثم الثاني، وقد روي في فضل الجميع روايات كثيرة ..
وقد جمع الشيخ عبد الغني العرفات أحاديث أهل البيت (ع) في كتاب بعنوان (بيت المقدس في أهل البيت (ع))، وقد استهلّ الكتاب بعرض تفصيلي حول (فضل بيت المقدس في مصادر روايات أهل البيت (ع))، وقد بلغ عدد الروايات 18 رواية. ويمكن للقارئ الكريم مراجعة الكتاب المذكور للاستفاضة.
لماذا التشكيك؟؟
وهنا يأتي الدور للإجابة الختامية على هذا التساؤل حول مسألة التشكيك في حادثة الإسراء ليكون مسك الختام لسلسلتنا البحثية هذه، والتساؤل يقول:
لماذا شكك مجموعة من أهل العلم المعاصرين ومجموعة من المثقفين في الآونة الأخيرة في حادثة الإسراء؟
ونحن نجيب بصراحة لقد توسّع الغلاة والمتطرفون المنسوبون للشيعة والسنّة أيّما توسع في رواياتهم حول حادثة الإسراء، فعلى سبيل المثال لا الحصر:
-أنّ جبرئيل فتح صدر النبي (ص) ليباعد عنه الرجس.
– والسير بالبراق.
-وأنّ النبي (ص) رأى جميع الأنبياء لما أُسريَ به إلى بيت المقدس.
وغيرها من الروايات التي بلغت أكثر من مائة رواية، قد خلت من التواتر والاطمئنان، فضلا عن كونها متعارضة، كذلك مختلقة أو مجهولة، وإذا كانت صحيحة السند بحسب رؤية بعض العلماء فهي مخدوشة ومشكوك فيها، وهي بالتأكيد من صنع الغلاة الذين أرادوا تفخيم مقام الرسول (ص) عند الله وهو لا يحتاج إلى ذلك لأنّ منزلته عند الله أعظم مما يصفون، والأفضل لنا هو الابتعاد عنها بكل تفاصيلها، وقراءة القرآن الناصع والتدبّر بآياته بدلاً من الروايات المشكوك فيها.
أما الروايات الموضوعة في قصة المعراج أكثر منه في قصة الإسراء بشكل واسع جدًا جدًا، وعليه يمكننا القول بأنّ المثقفين على ثلاثة مستويات هي:
-الأول: المثقف الواعي الذي يبحث عن الجادة والطريق الصحيح الذي سيكتشف بأنّ أكثر الروايات موضوعة أو مجهولة ستتحرك عنده حالة الشك والتردد في معالم الروايات، فالشك ممدوح إذا كان جسرًا موصلًا نحو الاستقرار والإيمان، فلا ضير عند التردد والشك إذا كانت نتيجته الوصول إلى معدن العظمة.
-الثاني: المثقف الذي يدغدغ مشاعر قارئيه ويستأنس كلما أبطل فكرة ثابتة في نفوس المسلمين، أو شكك فيها، فهذا يحتاج إلى الاستيقاظ ليضبط بوصلته الهائمة التي ترك لها الحبل على الغارب، ينبغي عليه الإمساك بهذا الحبل لتكون حياته مبرمجة في كل عمل يقوم به، ليكون له أجر على ما قام به، بعد أن كان لعمله إثم أو لا أجر.
-الثالث: المثقف الساخر، الذي يرى أن الدين كله أسطورة بل أشبه بالهراء، وهذا لا نعتني به لأنه يخدش عقلية الملايين من النّاس، وأنا أتوجّه إليه بالقول الهادئ: انظر إلى ذاتك وشخصيتك هل أنّ الحقيقة متمثلة فيك فقط، وفكر غيرك خيال؟!، فاقرأ وتفكر في هذه الآية جيدًا (كل حزب بما لديهم فرحون)، فإذا احترمت غيرك احترموك.
وفي ختام الكلام نهديكم أزكى تحية سلام، على أمل أن نلتقي بكم في سلسلة بحثية أخرى، دمتم بخير.