وقفات تأملية بين ضفتي العشق والحب

… ولو تصفّحت أوراقي لتقرأها… رأَيت تأمّلاتي جُلّ أوراقي

1. لِنقتَرِب رُويدًا؛ ونَتأمّل بِتأنٍ ورِفقٍ، مَفهومَ اللّفظتَين: العِشق والحُب؛ وسَأحْمِل على عَاتقِي حِمل نّظرةٍ تَحلِيلِيّةٍ ذَاتيّةٍ مُتواضعًةٍ، لعلّها تَحظَى، برفقٍ الوَجْسِ؛ وتَنال صِدقَ الهَمسِ، بالتفاتة استحسانٍ؛ وإيماءة رِضًا، لدَى نَهَم ذَائقة القارئ الكريم، الذي نَقّى بِطانةِ نَفَسِه؛ وارتَقى بدخِيلةِ فُؤادِه مِن “شَرْقَة” العِشق المُتيّم، كَونِها بتَشريحِ جَذرها اللفظِي (ع.ش.ق) نَجدها تَحوي ثلاثة أحرف، الأول والأخير حَلْقِيّان، يَتوسّطهما حَرف وَشوشَة الشين، المَحبوسَة المُتردّدَة خَلف طَرفَي اللّثة، مِن الداخل؛ لتُلفَظ الكلمة بغُصّةٍ حَلقيّةٍ، وتَعودُ مُنسحِبةً إلى سَابِق جَوف مَنبع انطلاقتِها الحلقيّة الأُولى، ثانيةً؛ لِتظلّ مَكبُوتةً، مَكتُومةً بصَوتَي الحرفَين الحلقِيين القامِعَين: العين والقاف…

2. وسَأَنظرُ بتأمّلٍ مُنصِفٍ مُمَاثِلٍ إلى أختها “حُب” حَيث تَحوِي حَرفين سَلِسَين مُنطلِقَين في فُسحَة اللّسانِ والشفتين: (ح.ب)… فالأول حَلقي، يَنبع مِن وَسط الحُلقُوم؛ لِينطلِق بنَسمةٍ دَافئةٍ إلى مِزلَاج بَوابة الشفتين الحارِستين؛ ليَطلِب الإِذْن المُيسّر، بسَماحِ مُرور اللّفظة الخَفِيفة الرشِيقة، لهُنيهَةٍ مُتأدّبةٍ؛ وبَعدَها تَنطلقُ بلطَافة مُتأنّقةٍ، برَفرفَة جَناحَيها، مُهرولةً جَذْلى، إلى مُتّسعِ الأثِير الحُر؛ لتَسرِي بأناقتِها المّرمُوقَة، زَهوًا مُتجدّدًا؛ وتَستقرّ بجَمالِ دَماثتِها الرشِيقة رَدَحًا نابِضًا، في عُمق نَواةِ أُذنٍ صَاغيةٍ واعيةٍ؛ وتَستأذِن بِدبِيبِ رِفقٍ حَانٍ، ثانيةً بالدخُول المُظفّر إلى أروِقَة ضِيافة سُويدَاء قلبٍ مُتلهّفٍ؛ والاحتِماءِ الآمِن طَويلًا بكَنفِه، بعَريضِ فَيءِ نَفْسٍٍ مِضيافٍٍ؛ قد أضْناهُما مَغبّة صَدأ “العشق” القدِيم؛ وأبْكاهُما أَلم الفِراق السقِيم؛ وأمرَضَهُما دَائم وَجَع الجَوى الذمِيم… !

3. ولعلّ جُلّ أطوارِ جَعبة سِهام العِشق المُستَهام تَنتهِي مَنهُوكَةً، مَهِيضَةَ الجناح؛ وتَخلُص إلى انطفاء وهَج الخاطِر، عَادة؛ لتُفضِي إلى مَرحلةٍ مُتقدّمةٍ مِن مَحطّ مَآلٍ دِراميٍ؛ تَتنامَى برَشّاتِها النافِذة المُتتابِعَة، إلى مَبلَغِ مُنزلَقِ قدمٍ مّأساويٍ مَسدُودٍ، تَتلوى أقدامه الضعِيفة الوارِمة مِن شِدّة الأَلم، في طُول مِشوارِ جّادّته المُلتوِية؛ ويُمنَى تِباعًا، بآهَاتِ الوَلَه، وحَرّةِ الوَجد؛ وتُوهِن مِرارًا، في سَاحَته الشائكة، كُتلة آجِرة الحُبّ الراسِخة؛ لِتستقِرّ نُزولًا ثابتًا؛ وتُبنَى فَوقها أُسس بُنيان المَودّة؛ ويُعمّر صَرح دَفق الرحمة؛ وتُسْتَهَلّ في بَرَاح سُوحِهما الواسَعة استِحبَابًا، بنتائج رَيعِهما المَتِينة، رَبيع رِحلةِ حَياةٍ زَوجيةٍ هَانئةٍ سَعيدةٍ… وبقِراءةٍ مُتأنّيةٍ مُتجَرّدةٍ في أصلِ صَحيفة جَديد رِقاعِها العَريضة، تُثير وتُشير سِير ثُلّة العاشِقين الوُلَّه، ومَن طَوَّقَهم بحِزام سِياج العشق الآسِر، وأَدمَى نِياط أفئدتِهم الواهِنة، تَمزِيقًا وتَقطِيعًا، بمِبضّعِه الحاد؛ ومِن جَانبٍ مَأْساوِيٍ آخرٍ، سَارَع لَأي التنائِي السحِيق بين لَفِيف العاشِقين إلى نَخرِ جَفاف الجَوانِح؛ واجتياح لَوعَة بَلل المَآقي المُمتلِئة حُرقةً وحُزنًا؛ والمَشحُونة حَسرةً واكْتئآبًا…!

4. ولَعَلّ فَارِقًا مَفصَليًا، يِفصِل بين هَبّة “العشقِ المُنفلت” كالسهمِ “الجَارحِ” وسُكُونِ الحبِ المُتخَلّلِ في عُمق الوجدان، القاطِن في سَريرَة النفس، والناطِق في لُجّة سُويداءِ القلب… وقد يَنشَأ العشق؛ وتَتشكّل نواتُه الأُساس مِن النظرة الأُولى البِكر؛ فأَحَد العاشِقَين يَرى نظِيرَة الأوحَد، فارسًا هُمامًا، مُتوشّحًا حُسامه الصقِيل، ومُمتطِيًا سَرج فرسِه الأبيض المُجنّح… تفوحُ مِن جوانِحه العريضة رائحة المِسك الفوّاح؛ وتَعلو مُحيّاه الأَغر رَائق ابتسامَة جَاذبة؛ ويَتمنّاه لنفسِه، بشَغفٍ وكلَفٍ، وليفًا أَليفًا، خَفيفَ الظلّ، ورَقيقَ العِشرةِ، وسَهلَ المُعاشرةِ!… وفي الجانِب الأَغَر المُزهِر، يتربّع مَقام “الحب الدائم” في قاعتِه الرحبَة الكُبرى؛ تَتوافَد على أَسطُحِ مَناضِدِها مَوائد المودّة السَّنِيّة؛ وتَتوارَد، في أبهَائها المُترفة، أَدوَم مَراتب الأُلفة الجَليلَة، مَشفوعةً بعُقودٍ قادِمةٍ مِن بِشارة العِشرة الرحِيمة؛ مَحفوفَةً بجُسورٍ مِن بِناء مُستقبلٍ مُزهرٍ، تَتخلّلها رَشّات عَطِرة فَاخِرة، مِن أرقَى مُستويَات قِمم ذَائقة “العشق” المُتجذِّرة بأيقُونة نُسخةٍ أصليةٍ صِرفَةٍ، تَكسُوها أنفاس الشهامَة؛ ويَغمُرها جَلَال القَداسَة… !

5. وكَمْ سَمِعنا عَن سِير العاشِقين الوُلَّه الحَيارَى، في طَيّاتٍ مُتناقِلةٍ، مِن نَوادِر مُختارات تُراثنا العربي التلِيد، ومَا جَنَته أيديهم الندِيّة مِن تَوهّج لَوعَة الفِراق، واكتِواء شِغَاف قُلوبِهم بتأجُجّ لَهِيب العشق النابِت في مُخيّلة أذهانِهم “الثكْلَى” واستحواذ “شَخص المَعشُوق” في دَاخِلة الوجدان، وفي أََعماق ثَنايا سَريرَة ضَمير العاشق الوَلهَان… فَذاكَ مَجنون ليلى العامِريّة، قيس بن المْلوّح، هَائم، قَائم صَائم، مَا بَين الصحاري القِفار، وبُطُون الوِديان، يَنشِد الشعر سَاعةً، ويَهِيم سَاعاتٍ طِوالٍ في حُبٍ، وعِشقٍ، وهُيامِ شخص ليلى، لا يَعنِية، إلَّا هَجمة العشق؛ ولا يُغريه إلَّا سَهم الوصَال… وقد أفناهُما الموتُ مَعًا: قَيس ومَعشُوقته لَيلى؛ ولم تَجِفّ مَآقيهما الساخِنة، شَوقًا، وصَبابَةً، وحُزنًا، ووَفاءً… ! وأُواسِي، بحَرارَةٍ ومَرارَةٍ، ذائقة العشق “الفِطري” البريء الدافِئ للعاشِقَين؛ ومَن وَطِئ نَفسه حُزنًا وأَسَىً لَحظِيين لِسمَاع حَبكة قِصّة “قيس وليلى” الدرامِيّة المُحزِنَة، بتأمُلٍ وِجداني؛ وقد ذَرفَت عَيناه دَمعةً واحِدةً سَاخِنةً…

6. وتَتَجلّى آصِرة “الحُبّ الصادِق” في حُلّة الارتباطِ النزِيه بعَلاقة الزواج الشرعِي المُقدّس… حَيث تَسُودُ فِطرة السُّنّة الإلهيّة، التي فَطر الله الناس عليها؛ مُنذ أنْ خَلَق المُنعِم- تبارك وتعالى- أبي الأنبياء آدم، عليه وعلى نبينا الكريم، أفضل الصلاة، وأتمّ التسليم… فمُسلسل الحب هُنا، يَنعَم بدَيمُومةٍ مُباركةٍ؛ ويَحظَى بأَولَويّةٍ وِجدانيّةٍ وسُلوكِيّةٍ مَحمُودَة؛ حيث تَجلِب أُلفتُة الجامِعة مَشاعرَ الدفءِ؛ ويُحفّز أُنسُه المُؤنِس أحاسِيس الحَنانِ؛ وتُؤسِّس بَركتُه الضافِية زَرعِ أقوى شَتلاتِهم المُزهِرة، في حَاضِر حَياة الأَنجال؛ وقَادِم مُستقبل عالَم الأَجيال… ودَليلُنا المُوثّق، مَا سُطّر في كتاب الله المجيد: (وَمِنْ آيَاتُه أَنْ خَلَقَ لَكْم مِّنْ أَنْفُسِكُم أَزْواجًا لِّتَسْكُنُوا إِليْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَأَياتٍ لِقِوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).



error: المحتوي محمي