لكنَّها لم ترحل.. (14)

جدران المنزل قديمة، توجد فيه مساحة صغيرة، يستخدمها أبو عبير، الحاج محمد في الزّراعة، وفي الزاوية اليُمنى، وضع بعض الدجاج، يقُوم بالاعتناء بها، والاستفادة مما تنتجه من البيض، بالإضافة إلى بيعها في السّوق المُخصص. إنَّه يهتم بالدّجاج العربي ذي الفصيلة الأكثر ترغيبًا في الشّراء.

المُعاناة، التي عاشها الحاج محمد، ووجوده الدّائم في مزرعة جده، صيره عاشقًا للتّراب، للخّضرة، لعرق جبينه، يمشي على وجنتيه، ليسقط على الأرض، وفي يديه الثّمر الرّطب، يتدحرج فوق أصابعه، يضعه في الماء، ويقُوم بغسله.

تنظر عبير إلى والدها بوصفه مثلها الأعلى، النّموذج، الذي يتألق في سماء رُوحها، كلّما أعلنت الحياة يومًا جديدًا في لغة الأرقام، تُضيف من وجوده ما تستعين به في حياتها.

أحيانًا، تضعك الحياة في مُفترق طُرق، فلا تستطيع أن تُوغل نبضك باتجاه أحلامك، وما تصبو إليه، أن تعيش، كالرّفاق، كالآخرين، تُكمل دراستك، وتعيش ريعان شبابك، تلهو، لتحوطك الابتسامة، وتُبلل ملابسك تحت المطر، تُصغي إلى نداء القلب، يُشعل فيك المسؤولية، هذا الحسّ، الذي يفتقده البعض من الكبار، ويتحلى به الصّغار، ليترك الحاج محمد، الذي يصغر إخوانه سعيد وياسر عُمرًا، دراسته، ويساعد أمه في مصروفات المنزل، ويُلبي احتياجات إخوانه، وأخواته الثّلاث.

مُنذ كانت عبير صغيرة، كانت أمها، تُحدثها عن والدها، وتُشير لها عن مواقفه، وكيف كان يرعى أمه، وإخوانه وأخواته، ولا تُهمل تعاطفها الصّادق معه، لتهمس في أذنيها بأنَّ الحياة لم تُنصف والدها، تحمل المسؤولية صغيرًا، ولا زال يُكابد الحياة، ليُوفر لها، ولأختها الرّضيعة العيش الكريم، كان مُناه أن يراهما مُتفوقتين في الدّراسة، وأن تُحقق كلّ منهما أحلامها، وأمنياتها، ولا تُغمض عينيه في هذه الدّنيا، قبل أن يطمئن عليهما. تتحدث وتبكي أم عبير

في هذه الأجواء، تربت عبير، ترضع الإدراك، فأتقنت فلسفتها، والتي تحكيها لذاتها باستمرار، بأن تكون أقوى من الواقع، أن تتحدى الظروف في صُعوبتها، كالنّخلة شامخة، كاشتهاء قطرات المطر.

أن تسعى إلى احتضان أهدافها، بلا كلل أو ملل، عن التّحلي بالعنفوان في خطواتها، وقاعدتها في ذلك، ما قاله والدها ذات مساء، وهو يُمشط الذّكريات أمامها عبر نبرة صوته الحنونة، لتشعر بها، كفيلم سينمائي لرجل أضناه التّرحال في طلب الرّزق، ليستريح أخيرًا في محله التّجاري، ينتظر أن يُبصر كلتا عينيه، عبير وأختها فاطمة في أبهى ما يتمناه الأب إلى فلذة كبده.

انبهرت حنان من حديث عبير عن والدها، وأدارت شفتيها إعجابًا، إنَّها لا تترك حركاتها الطّفولية، ابتسمت عبير.
حقًا يا عبير، فإنَّ الإنسان يحتاج إلى القدوة الحسنة في حياته، فما أجمل أن يكون الأب هو القدوة الحسنة، والنّموذج، الذي يحتذى به.

لا تقُول أنت فيلسوفة، وسأخبرك بما أراه، عليك بالعافية أنت، وياسمين إنسانة حنونة، ومُثقفة، وأيضًا فنانة مثلي، ورُوحي طُفولية، تخلق لكما جوًا سعيدًا. تومئ وتضحك بنبرة عالية

تفضلي أيَّتها الفيلسوفة الجميلة، كلّي آذان صاغية. تطلب عبير بأسلوب فُكاهي

هل تعلمين يا عبير، أنَّ الإنسان إذا ما ابتعد عن جادة الطّريق، يكون من أسباب هذا الانحراف غياب القدوة الحسنة، فإذا كان الإنسان، لا يشعر بحنان والديه، ولا يرمق الاهتمام في مسافات البصر لديهما، لا يتم تحفيزه، وعقابه من خلال تصرفاته، وتحت قاعدة ما ينبغي أن يكون.

هل تعلمين، أنَّ الحياة كلّها في قلب الوالدين، ليكون الإنسان في حياته، ينطلق من هذا القلب، ليعيش علاقاته الاجتماعية من خلاله، قلب الوالدين هو الأنس والدّفء، الاطمئنان والسّكينة، كلّ شيء في هذه الحياة، يبدأ جماله بهما، ولا ينتهي، يبقى كالنّهر، لا يجف.

هل تعلمين، لو كنت في مكانك، كنت اتخذت من اليراع طريقًا، أكتب فيه حكاية والدي، أوثق كلماته، التي يُسمعني إياها بين الفينة والأخرى إشراقًا؛ لهذه الكلمات مسيرة حياة، نحن تُغرينا الكلمات للفلاسفة في البقاع البعيدة، والأدباء والمُفكرين، الرّوائيين، والقاصين، والكتاب..، وسواهم، وبين أيدينا أصحاب فكر ويراع، آباء وأمهات، في حياتهم حكايات، وبين الشّفاه كلمات حُبلى بالدّهشة والانبهار، الآن، أحملني إلى ذات، لأجدكِ تُبحرين في بعض كلماته، وتقولين، نعم، إنَّ هذه الفيلسوفة الشّقية الابتسامة، الطّفلة، تقُول الحق، لكلمات والدي منهج حياة، لم لا أقوم بتدوينها؟.

هل تعلمين، إنَّنا لا نُتقن التّعامل مع الكلمات، فإنَّها تمرّ مر السّحاب دون أن نستطعم عُذوبة حُبيبات الغيمات، ونلمس الأزهار، وهي تغتسل بالمطر ذات ربيع.

هل تعلمين، بأنّي أفدتكِ خلال بضع دقائق بكمية كبيرة من المعرفة، ومن الحالة النّفسية الأبهى حُضورًا فيكِ، الآن، شهيتكِ إلى الحياة أصبحت نسبتها عالية جدًا، أثق في ذلك، كما أثق في طُفولتي، التي تجعلني، كالرّيشة، أغرسني في ألوان لوحاتي، ليتراقص الظلّ من رمشيَّ إلى وجنتيّ لوحة، ستبزغ ذات يوم، وأنتِ وياسمين، تُراقبان.



error: المحتوي محمي