حين تنتفي أسباب السعادة .. أسباب التواصل .. أسباب العيش .. تصبح أمور الحياة معقدة فوق طاقة الاحتمال .. ويصبح الممكن مستحيل واللا ممكن متاح لأنه لا بديل له ولا خيارات كثيرة فيه ..
هنا يكمن الخلل بصورة قهرية فيدخل الإنسان في متاهة جديدة من التشتت والضياع ..
حين ينعدم الحب وأسبابه والحوار وسبله، و ويشح وجود لفيف من الصحبة أو حفنة أصدقاء حقيقيين يخففون عنا مواجع الطريق وحرقة المصائب وأركانها .. يصبح لزاما علينا أن ننزوي في ركن قصي نعالج آلامنا وحدنا .. ولربما يقودنا هذا الانزواء للكثير من الهواجس والآلام ويفتق جراحنا الغائرة ومن كنا نحسبها طابت مع الأيام ..
العبارة المؤلمة التي قرأتها مؤخرا معلقة بكتابة جدارية تقول كل هذا .. تقول أن من يقدمون على الانتحار بالغالب فقدوا كل الأسباب الحقيقية للاستمرار ..
” ربما من انتحروا كانوا بحاجة لعناق طويل .. ”
الشاب اليمني العشريني الذي استدعيت لدراسة حالته قبل اسبوع تقريبا والذي حاول الانتحار كان حالة من الحالات التي استوقفتني وظلت لصيقة بي طوال المدة الماضية ..
هذا الشاب المغترب الذي يعمل بمغسلة سيارات وبراتب زهيد جدا لا يكاد يعيله ، وبه يعيل أسرته في اليمن بظروف صعبة قاهرة ويعاني من حالة نفسية تربك حياته، ويفتقد لوجود الرفاق والأهل حوله سوى بعض العمالة الآسيوية والذين لهم عالمهم بعيدا عنه ..
هو يعاني من غربة في الروح أكثر من غربة مرتبطة بمناطق جغرافية وتضاريس مختلفة .. يعاني بعد ثقافي ومادي وسياسي ومجتمعي .. حدثته نفسه بالخلاص .. فألقى بها من علو الطابق السابع ..
هو لم يمت لكنه تحطم .. لم تنكسر فقط أطرافة وتدمى عينيه ويتهشم فكه ويُجبَّر وتجرى له جراحة مستعجلة ويحتاج لمتبرعين بالدم .. لكنه عجز عن التصالح مع واقعه والتكيف بصورة معقولة أو ممكنة تضمن التعايش المجرد معه ..
العناق الذي كان بحاجة له وأمثالة ليس مجرد حضن فارغ .. ولا معانقة مستبدة .. ولا مجرد تلامس جسدي لا يعني شيء .. كان بحاجة للكثير من التواصل ، من الابتسامات العابرة والمعبرة ، من كلمة شكرا .. أو يعطيك العافية .. كان بحاجة لبعض اللحظات الصغيرة للسؤال عنه وعن كيف كان نهاره ..
أمور كثيرة وبسيطة وعفوية لم يجدها لدينا، فانزوى هذا المسكين في عزلته وقوقعته يبحث عن النجاة بطريقته وراح فريسة سهلة لمرضه النفسي وعجزه عن مداواة أوجاعه الداخلية والمعيشية والنفسية ..
لكنه تهاوى في قاع ضحل من إنسانية فارغة ومبتذلة ومهينة جدا وعاجزة عن تقديم شيء حقيقي فعلي .. ما أسوءنا ونحن نتجرد كل يوم من بواقيها ..
تساءلت بيني وبين نفسي .. كيف أجرمنا في حقه هو وآخرين كثر مروا بنا بعضهم نجا وبعضهم عطب فعلا بعاهات مستديمة .. بينما كثيرين منهم غادرونا ناقمين ..!
عماد أجرى جراحة وتابعته حتى نهاية دوام اليوم لأطمئن عليه قبل مباشرة إجازتي لأن القلق بشأنه قد يفسدها فتجاوب الاقسام آخر النهار كان صعيف وازدحام الحالات معي كان كثيف جدا .. وفعلا ، كنت في تواصل مع قسم الجراحة رجال للسؤال عنه .. وحين عرفت بأنه لازال في العناية ترددت بالاتصال لمعرفة وضعه الصحي الذي وقف عليه خوفا من خبر صادم لي ..
للحقيقة كنت أخشى أن يكون بحالة صحية سيئة .. لكن الممرضة أكدت لي أنه صار أفضل واحتمالية نقله للقسم قريبة ومرتبطة بتوافر سرير له ..
حتى الآن الأمر يعد جيد ..
لكن هل ستنتهي معاناته عند هذا الحد .. لست أظن !؟
ففي بطون مستشفياتنا وفي أروقتها وبين غرفها المهملة ، قصص إنسانية كثيرة مربكة تهز أعماقنا بمآسيها ، ولكن للان لا حلول جذرية لها .. وحتى التي تجيىء .. تصبح بطيئة وضعيفة على قائمة حزن وعراك .. وربما بجهود فردية و على استحياء يغلق فم الحديث بخيوط العجز !؟ .