هُنُاك الكثير مِن لَحظاتِ الانبهار الآسِرة، ومِثلها هُنيهات الدهشَة المُداهِمة… ورُبّما تمرّ عَلينا تِلك الدقائق الشاخِصة المارِقة- بقَضّها وقَضِيضِها- ونَحن في حَالةٍ مِن “الحَيرة” تُنَازِعنا بَارِقة عَاصِفة مِن سَنا الوعي؛ وتُجَاذِبنا هَالة خاطِفة مِن وضَحِ اللّاوعي… وعِندئذٍ، تّتلقّفنا عَواصِف الأفكار المُتوارِدة؛ وتتكالَب عَلينا زَوبَعات الرؤى المُتزاحِمة؛ وتَنشَط بحَضرتنا تَكدّس رُكام مِن قِطع السحَائب الملوّنة؛ لنستقبِلها، ونتأمّل صفّ رُكامِها، كمًا وكيفًا، مُندهِشين، مَأسورِين ومُشدوهِين؛ لا نَلوي على اصطياد لَقطةٍ ثابتةٍ، بأحدثِ تقنيةِ “الكاميرات” الرقميّة؛ ولا نَكاد نَستنِد إلى أريكةٍ وَثيرةٍ؛ لنُرَتّب مُسلسلَ نَسق الأفكار الذهنية الشاطِحة، في وَجه صَفحة “ألبوم” عّريضّة نَاصِعة، كَما اعتدنا ذلك، قبل عُقود مَضت، مِن أعمارِنا المَديدَة، بمشِيئة الواحِد الأَحَد… إنَّها طاقة ايجابية، غير مَرئية، وقد يُرى لها تفسيرٌ ذاتيٌ حَدسيٌ، بأنَّ لحظة “التخَاطُر” مَع شخصٍ مَا تكون نابعةً مِن شخصٍ مُرسلٍ في حالةٍ مِن السكُون والارتياح، أو القلق والانزعاج، ومَا يُماثِلها في عَالم الأحلَام، بذبذباتٍ أثيريّة، مِن شحنات طاقة تأثيريّة، مُزدوجة القطبين: إيجابية، أو سلبية؛ ليستقبلها شخص آخر، عن بُعدٍ؛ يَكون في حَالةٍ تَوقّدٍ مِن الاستعداد الذهني المُماثِل؛ لاستقبال تلك الرسالة ذاتها، في حِينها، او بَعد حِين… وغالبًا مَا يَصِف عَلماء الدين، والخُطباء حَالات التخاطر الروحِي، بالكَرامَات الإلهية، التي نالها النبيون، وثلة الصالحين !
ولَعَلّ مَلكة التخاطُر، وقَانون التجاذُب الزّائران، شَيئان مُترافِقان مُتصاحِبان، يستقِيان قُوتهما النشط مِن انبثاق مَكنون الطاقة الروحيّة المُرسَلة المُستقبَلة!… ولعل أقرب مِثالٍ على ذلك، انجذاب شخصٍ لآخر، دُون سَابق عَلاقة عَاطفية بينهما، وهُناك مِن العَلامات البادِية مَا يُِهتدَى ويُستدلّ بها على هَبّة الشعور الوشِيك، أو نفرَة الاستشعار المُفضِي إلى حَالة التخاطر المُعاشَة… وفي هَذا الصدد، يَذكر بعض الباحِثين والمُتتبّعين، أنَّ مِن تلك العلامات البارزة: هَجمة الاستحواذ المُطبِقة، التي تُلازِم حَاضر ذِهن الفرد، عند استهلال عَلاقة عَاطِفيّة حَمِيمة تِجاه شخصٍ مَا، لم يتم اللقاء به؛ وتَرى أحدَهم يَبلُغ قِمّة الحسَاسيّة المُفرِطة، والإستشعار الروحي الحدَسِي، عن لَفيف أطياف مَشاعر، ورؤى أفكار شخصٍ مُعيّن؛ يتصوّر أحدهما أنَّ عَلاقة عَاطفيّة قد رُبِطت بَينهما… ولعل مَلكة الحاسة السادسة، لها مِن التأثِير الأكثَر، والدورِ الأكبَر، في ظاهرة التخاطر، عن بُعد… وكأَنَّ الشخص المحبُوب يَعيش- حَيًا يُرزَق- بالقرب مِن مُحِبِّه… ومِن نافلةِ القولِ مَا ذُكر في بعض السِّيَر، مِن العِشق والهُيام، بَين قُلوب المُحبّين، وعَواطف العَاشقِين؛ وغَرِيب وطَرِيف قَصَصِهم الغراميّة؛ وأخبار ارتباطات العِشق المُستَهام بَينهم؛ والحديث المَنقول عن أطوار الصبَابة، ومَبلَغ شِدّة الوَلَه المُتولّدة في لُباب أذهانِهم… ولعلّ مِن أقرب الأمثلة على تَوقّد وتَوهّج وَقود تلك المَشاعِر الجيّاشة، في عُمق أصِيل تُراثِنا العربي، مَا حَدَث لعَنترةَ بن شدّاد، وابنة عمّه عَبلة ابنة مالك؛ ومَا جَرى على مَجنون ليلى، قَيس بن الملوّح، وغَيرهم…
ومِن جَانب آخر يُثبت ويُؤكّد عِلم النفس الحديث ظاهرة التخاطر، مِن ألِفها إلى يَائها، ذِهنيًا ووِجدانيًا، ورُوحيًا؛ وارتباطها الوثِيق بالحاسة السادسة، التي هي جُزء واقع مِن جُملةِ الحَواس المُدرَكة المعروفة. هذا، ويُعزِي عُلماء النفس نَجاح ظاهِرة التخاطر إلى تصدّر وتَحقّق ثلاثة عناصِر أساسية، لتُتِمِّ وتُربَط عملية التخاطر، وهم: الشخص المُرسِل، ومَضمُون الرسالة، والشخص مُستقبِل الرسالة… ويُؤكد العلماء والخُبراء مَعًا، في هذا المجال، أنَّ مُحتوى وصِدق الرسالة التواصُليّة، في ظاهرة التخاطر، هي الرابط الأَهَم، في رَبط سَرَيان شِريان، وإتمام بُنيان عملية التخاطر النشطة… وكَثيرًا مَا حَدث لِي شَخصيًا؛ ويُحدث لِغيري مِرارًا، في غَمرة الحدِيث الودّي عن شخص مُعين، بذِكر مَواقِفه ومَحاسِنه، في لحظةِ غِيابِه؛ ونَراه فُجأة، وقد اخترق مَجلس الحديث بحُضوره الشخصِي المُباغِت، وعلى غيرِ مَوعدٍ مُسبقٍ… ولعلّ مَقام الحديث النبوي الشريف، المُوصِي بالذكر والإِشادة بمَحاسِن الأَموات، فيه مِن التأمّل والتدبّر، الشيء المَستور، لكرامَة الإنسان، حَيًا ومَيّتًا!
وفي عُقودِ العصر الحديت، نالَت ظاهرة التخاطر، حَظّها الأوفر مِن الاهتمام الواسِع، الذي لم يَسبُق له مَثيلًا… حَتى مَنحها العلماء، بعد سَلاسل الأبحاث المُركّزة، في صِدق تأثيراتها الذهنيّة والروحيّة؛ وأعطوها اسم “العِلْم” المُستقل؛ إذ لَا يُمكن إنكار وجُوده، أو إلغاء حُضوره، في ذِهن، ومَشاعر، ودَاخِلة وِجدان الإنسان، أيٍّا كان… ومَا زالت سَلاسل أسرارِه وحَنايا خَباياه- تَتكشّف يَومًا، بَعد يومٍ؛ ولعل شيئًا مَفصليًا مُتوارِيًا عن أعين وأذهان البَاحثين والخُبراء الماديين، في عِلم التخاطر، وظَاهرة التجاذب الروحانية بين الأرواح البشرية المتآلفة؛ ومِفتاح السبب المَفقُود يَعود إلى انغلاق وصُدود تلك الفئة المُلحِدة مِن ثلّة البحّاثة المُعاصِرين؛ وانكارِهم بوجود ووُلوج الروح في الجسد البشري، وتأثيراتها غَير الماديّة والمرئيّة، في ظاهر طبيعة التواصُل الروحي… ويَرَوا أنَّ التواصل يتم بواسِطة مُختلف شَبكات وأساليب الوسائل والنواقل التكنولوجِية الحديثة… فوُلُوج الروح في الجسد أمرٌ ربانيٌ مُؤكّدٌ؛ لايُمكن التشكِيك فيه، أو إنكَار صِحّتِه… وقد أخبرنا العلِيم القدِير، بحقيقة الروح، وأنَّها مِن أَوْلَى اختصاصِه وحدِه، وخُصوصِيّةِ عِلمه؛ وتَصرّفِ وَاسعِ إدراكه؛ ولَا يُمكن لألمَعيّة العقل البشري-جُملة وتَفصِيلًا- مِن الدنُو والاقتِراب رُويدًا، مِن كِنهِها؛ وفَكّ أدنى أسرارِها؛ أو التعرّف على جُزءٍ يَسيرٍ مِن شَفراتِها الكامِنة فيها، رُؤيةً وفَلسَفةً: (ويَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن العِلْم إِلَّا قَلِيلًا).
ولَا أَكَادُ أنسَى مَوقِف التخاطر الذي، حَدث لي قَبل قَرَابة خمسةِ عُقودٍ عِندما كُنت مُدرسًا للمرحلة الابتدائية، في القرية السفلى، وتقع بالتحديد في شمال القرية العليا، التابعة لتعليم الشرقيّة، وذلك في بداية تخرجي مِن معهد إعداد المعلمين، وذلك في أوائل السبعينيات مِن القرن الميلادي المُنصرم، وعلى مَا أتذكر جيدًا، أنَّه في اليوم الذي يسبق أخر يومٍ دراسي في الأسبوع، قد مُنِيتُ وأُسِرْتُ بنوبةِ قَلقٍ شَديدة، فلم أنَمْ سَاعةً في سَواد تلك الليلة؛ لإحساسٍ مُخترَقٍ، مُقلِقٍ مُستحوِذٍ، بأنَّ حَادثٍ مَا قد حَدث بَين ظُهرانِي مَسقط رأسي… وفي غُرّة الصباح الباكر طلبت إجازة اضطرارية مِن مُدير المدرسة؛ وصَادف ذلك مَوعد رحِيل سَيارة البريد إلى الدمّام، فركِبت مَع السائق… وفَور وصُولي إلى المنزل، عَزّتني الوالدة- يرحمها الله تعالى- بخبر وفاة الشاب الجار المؤمن الأستاذ: (حسن علي) رحمه الله برحمته الواسعة… وكان واحدًا مِن أعزّ أصدقاء الطفولة؛ وقد حَزِنت لِوفاته حُزنًا شديدًا؛ وعَلمت أن الحُزن هُناك، في أجواء مَسقط رأسي، إمتدّ إلى شّريحةٍ كَبيرةٍ مِن الناس؛ لحُسن أخلاقِ المُتوفَّى، وطِيبِ سِيرتِه وسَرِيرَتِه… وبَعدئذٍ عَلمت أنَّ مَاحَدت لي قبل لَيلتين، مَا هُو إلَّا هَبّة تخاطرٍ نَشِطةٍ عَابِرةٍ، قد تَمّت وسَاهمَت بنقل صِدق المشاعِر المُثارَة؛ وحَفزِ حَقيقَة الأحاسِيس الظاهِرة، بدُون وَسِيطٍ مَادي يُذكر؛ وقد استوفَت هَجمة الظاهرة المارّة كَامِل شُروطِها الآنفة الذكر!
هَذا، ولَا انفرد بتلك الهبّة مِن التخاطر الزائرة؛ ولعل حَال القارئ الكريم، يُفاجِئني تِباعًا؛ ويُشاطرني بواحِدةٍ مِن هبّات التخاطر التي استرعَت جُلّ انتباهه؛ وعَاشت مُسترخِيةً في سِجلّ ذاكِرته؛ ومَحفوظةً في تَلافِيف عَقله الباطن… وفي هذا الصدد أعطّر مَسامِعي، والقارئ الكريم، بفَحوى الحديث المَروِي عن نَبينا الكريم عليه وعلى آله، وصَحبه أفضل الصلاة، وأَتمّ التسليم: ( الأرواحُ جُنودٌ مُجنّدةٌ، مَا تَعارَفَ مِنها ائتلَف، ومَا تَناكَرَ مِنها اختلَف)… وبالله التوفيق!