حينما وعيت على الدنيا أدركت مسافات الحزن والفرح بتغير الألوان وتقاسيم الملامح، أقرأ وجه والدتي وقريباتي ونساء الحي فتجيبني علامات هيئتهن والملابس عن أي حال نحن فيه، هن مرايا المناسبات السارة والحزينة.
ففي مثل عصر هذا اليوم تجلو النفوس بهجة والوجوه نضارة، بعد أن غمرهن الحزن طوال شهري المحرم وصفر، ستون يومًا وهن متشحات بالسواد ولا شيء غيره، فمع إطلالة أول ليلة من شهر ربيع الأول يكتسين بالأزياء الزاهية ذات الألوان البراقة، يتباهين بالجدايل المزدانة بالمشموم، ومحياهن يفيض بالسرور، الشفاه أبرقت حمرة، والعيون تأطرت بالكحل، كل وجوه نساء (الديرة) ضاحكة مستبشرة، ودهن الرازقي يفوح من كيانهن، مبتهجات في الغدو والرواح بين عين العودة والدروب الظليلة، كلهن أصبحن جميلات حتى الجدات يحاولن تأنقًا ويتحدين ما أفسده الدهر.
عصرًا في آخر يوم من شهر صفر أركض مع الأقارب سباقًا، وأرجلنا حفاة متجهين إلى بيت (سيد مهدي آل درويش) والد زوج عمتي صفية، القابع على أطراف الديرة الشرقية بمحاذاة الدالية، حيث زغاريد النساء تعلو المكان، وعند “الدروازة العودة” تتراقص الفتيات مع هبات النسيم تمايلًا مع حفيف سعف النخيل، الضحكات والأغاني بتكسير الفخاريات (قدو، برنية، شربة، بغلة) الأواني انقضى نحبها تتناثر ارتطامًا على الأرض وتتشظى قطعًا متناثرة أرضًا، تركلها أقدامنا كلعب الكرة، ومن داخل المأتم يتصاعد البخور المليء (بعلك البان)، وأناشيد الفراق لشهري الأحزان لا تكل الألسن من تردادها طوال العصر:
(حرقناك يا صفر
على طوير واعتفر
كسر ابغالك يا صفر
البين غالك يا صفر).
نجوب الأزقة، وأمام عتبة كل باب بقايا فخار مهشم، والمنازل تعج بحركة محمومة، فكل النسوة يتبارين في كنس الغرف والليوان وحوش الدار، ويغسلن كل متعلقاتهن وجميع الأغراض، ويشعلن غصنًا من سعف ويحملنه بيد والأخرى ممسكة بالمبخر، ويتحركن بهما في أرجاء المنزل ويرددن (اطلع يا صفر بشرك وشرورك، طلع صفر بشره وشروره جانا ربيع بفرحته وسروره).
أدخنة تغطي الوجوه على إيقاع أصواتهن المتأرجحة علوًا وانخفاضًا لتطرد أشباح صفر والشياطين!.
نركض عصرًا بين (ساباط بيت أبو عبد السلام الصادق وأبو حسين شمله) ونلتف على زقاق طولي مارّين بين بيوت آل قيس وآل الشيخ والصغير والنهاش وبن جمعة، ثم نحط رحلنا نحو البراحة المحصورة بين بيت علي وبيت عمي عبد والسني والصفار، حيث جمهرة من النساء يتحلقن حول النار المشتعلة، نرقبهن إعجابًا وهن يتقافزن من فوق اللهب، صلوات وتبريكات وقهقهات، وضحكات، وسفقات، وهن يرددن أهزوجات صفر:
(حرقناك يا صفر..
يابو المصايب والكدر،
طلع صفر يا نبي الله،
طلع صفر طلع)، ثم يأخذنا الحماس قبل غروب الشمس ونصطف بجوار “مسجد الصياح”، نرقب الأشقياء من الأولاد، وهم يرددون ما تردده الأمهات (طلع صفر يا نبي الله،
جانا ربيع يا نبي الله،
طلع صفر بشره وشروره
وجانا ربيع بفرحه وسروره،
طلع صفر جانا ربيع
يا محمد يا شفيع).
ويزداد التحدي مع حلول الظلام والصبية ذو البأس الشديد يتنافسون قفزًا فوق ألسنة اللهب المتطايرة علوًا، عجبًا! إنهم لا يهابون الاحتراق، وكأن البراءة صيرت النار بردًا وسلامًا.
مشاهد مبهجة ساحرة تعود لسنين خلت أحسبها أمس كيف انقضى العمر ومر عليها سبع وخمسون عامًا، حيث لا كهرباء ولا مركز للشرطة، قليل من السيارات النادرة. طقس القفز فوق النار باركته العوائل دون غضاضة من أحد، موروث مستجلب من حضارات قديمة وتجذر عندنا تقليدًا عامًا بعد عام، طقس أدخل الفرحة على قلوب الأهل والجيران، ممزوجًا بطيبة أرضنا المعطاءة جودًا وكرمًا، والمنعكسة رقة وطيبة، لأرواح تفيض محبة، أناس قلوبهم متحدة، لا تعرف الحقد ولا البغضاء، يمارسون طقوسهم بعين الرضا وينامون ملء أجفانهم بأمن وسلام.
كيف أحدث أولادي
عن بهجات الطفولة.
وعن معاني المناسبات السارة وجماليات اللحظات السعيدة، ما عشته ولمسته من مشاهد “واصفيروه” مشاع في ربوع واحة القطيف، وكل له مساحة ذكرى لمن أدرك تلك الأجواء، ولكن ما حالنا الآن، كيف خُبئت تلك الأماسي ولحظات الفرحة، من يعيد ذاك الوهج، ويأتي بأيام الأنس والصفاء لفرحة مجتمع بأكمله بانقضاء شهري الحزن.
بالأمس حدثتني والدتي عن تقاليد احتفالية خروج أيام صفر.
ذات يوم نادت عليها أختها الكبرى “آمنة” المتزوجة حديثًا للذهاب معًا لمعامير “خليفة” المحاذية لنخل الوزارة والقريبة من “عين أم الفرسان”، وذلك للبحث عن حطب لأغراض الطبخ، وصلتا النخل وجمعتا “كرب وعسق وتله” حتى شكلتا حزمة، ربطتاها بحبل من ليف، وتناوبتا على حملها طوال الدرب، حين وصلتا بدايات منازل فريق الأطرش وهما قادمتان من جهة الشرق سمعتا جلبة وأهازيج، اقتربتا رويدًا رويدًا وإذا بنسوة ملتمات على بعضهن وسط “ساحة البدايع” مشكّلات حلقة كبيرة، وفي الوسط يتطاير اللهب والوجوه تضيء باللون البرتقالي، تنبري الواحدة بعد الأخرى قفزًا فوق النار المشتعلة، سباق محموم بين نساء كبيرات وصبية وبنات، وثمة أيد بجوار حلقة القفز تمسك بسعفات النخيل المتدلية لتشقها إلى نصفين “شلخ الخضر” والكل يصيح “اطلع يا صفر اطلع، اطلع بشرك وشرورك، جاك يا صفر حب لرويعية”.
تصفيق يشتد والأشداق تتغنى طربًا، والأنفس في دوران حول النار، كلما خبؤت أوقدوها بالسعف اليابس والكرب، أهازيج تتعالى وتتعالى: “واصفيروه صفر طلع من لحضار واعتفر، شرق وغرب يا صفر، واطلع على الشويله حدوبتي سالمه وعدوتي في المقبرة نايمة، واصفيروه صفر، اطلع يا صفر”، حماس يتدفق مع “سلوم الشمس” ممتزجًا بتسابيح رجوع العصافير لأعشاشها، والحناجر تهتف بترنيمة الفرح: “جانا ربيع جانا، جانا بفرحته وسروره” وعند المغيب تنتهي حفلة الرقص بإطفاء النار وتوديع شهري الأحزان.
أهازيج واصفيروه صفر رددتها أمي سنين طفولتها
وأخذتها عنها، وتباريت مع رفاق الصبا في إلقائها في وجه النار نشيدًا وقفزًا.
ثمة حنين يتسلل لزوجتي “خديجة” فتعيد بعضًا من مظاهر الاحتفالية؛ إذ تحرص عند عصر آخر يوم من شهر صفر على تكسير أطباق وأكواب خزفية في جانب من تهوية البيت تصاحبها ابنتي “داليا” وهن يرددن أهازيج الجدات ثم تبخر البيت بعلك البان وتزغرد فرحة بمقدم الربيع، أنظر إليهما ودموعي تنساب بهجة كأنهما تعيدان لي ومضات من وهج الطفولة.
ما أعجب تلك الأمهات اللآتي علقن ذهبهن بـ”راية العباس” المعلقة في صدر المأتم طوال شهري المحرم وصفر، وفي ليلة هلال ربيع كل واحدة تأخذ ما يخصها سواء معضد أو تراكي أو قلادة، لقد زينت الراية طوال تلك المدة وهي متروكة أمام أعين الجميع، فلا يد مدت للنهب أو السرقة!
كيف أحدث أولادي هذه الأيام عن سارقي الفرح!