المثير للجدل.. إطلالة على الوثائق والدلائل في حياة العلامة ابن خلدون

مقدمة:
قدم أحد الدارسين لدرجة الماجستير في أحد الجامعات البريطانية خطة بحثه، وجاء هذا الدارس متحمسًا، وقد حدد موضوع رسالته للماجستير، كان يود مناقشة واحدًا من موضوعات المجتمع الإسلامي، ولنفترض أنه كان يود مناقشة التطبيق العملي للاقتصاد الإسلامي، وفي النقاش مع الأستاذ المساعد، المشرف على رسالته، اقترح عليه خطوات أولية في الموضوع، مقترحًا أن تكون دراسته عن الأدلة والبراهين والوثائق والأحداث، التي تشير إلى وجود اقتصاد إسلامي، ومتى كان تطبيقه، وهل له فرصة النجاح أمام الاقتصادات الأخرى.

وكان هذا الكلام بمثابة رشة الماء البارد على جسم هذا الطالب، فكثير من الأحيان نأتي ونحن واثقون، ومقتنعون بوقوع حدث معين بجميع تفاصيله، لكن مناقشة بسيطة لسلسلة الوثائق والدلائل والبراهين، قد توصلنا إلى إثبات ما حصل، أو نفي ما لا يثبت إلا أن يكون باحثًا أو عدة باحثين نثق بهم قد قاموا بالتدليل، لنذهب إلى مناقشة التطبيق العملي لذلك الموضوع.

ﺍﻷﺳﻠﻮﺏ ﺍﻟﺘﺎﺭيخي Method Historical
ﻳﻬﺘﻢ ﻫﺬﺍ ﺍﻷﺳﻠﻮﺏ ﺑﺪﺭﺍﺳﺔ المعلوﻣﺎﺕ فالحقائق التي ﺗﺘﻀﻤﻨﻬﺎ ﺍﻟﻮﺛﺎﺋﻖ ﻭﺍﻟﺴـﺠﻼﺕ ﻭﺍﻵﺛﺎﺭ، ﻛﻤﺎ ﻳﻬﺘﻢ ﺑﺪﺭﺍﺳﺔ ﺍﻟﻈﻮﺍﻫﺮ ﻭﺍﻷﺣﺪﺍﺙ الماﺿﻴﺔ ﺃﻭ ﺑﺪﺭﺍﺳﺔ ﺍﻟﻈﻮﺍﻫﺮ الحاﺿﺮﺓ ﺑﺎﻟﺮﺟﻮﻉ الى نشأتها ﻭﺍﻟﺘﻄﻮﺭﺍﺕ التي ﻣﺮﺕ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻭﻋﻮﺍﻣﻞ ﺗﻜﻮﻳﻨﻬﺎ. والهدف ﻣﻦ ﺩﺭﺍﺳﺔ الماﺿﻲ ﻫﻮ ﻓﻬﻢ الحاضر ﻭﺍﻟﺘﻨﺒﺆ بالمستقبل. ﺃﻭ ﺍﻟﺮﺟﻮﻉ إلى ﺃﺻـﻞ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮﺓ ﻭﺗﺴﺠﻴﻞ تطوراتها وتحليل وتفسير ﻫﺬه ﺍﻟﺘﻄﻮﺭﺍﺕ. ﻭﻣﻦ ﺫﻟﻚ أيضًا ﺍﻟﻮﻗـﻮﻑ ﻋﻨـﺪ ﺃﺣﺪﺍﺙ الماﺿﻲ ﻟﻔﻬﻢ الحاﺿﺮ ﻭﺍﻟﺘﺨﻄﻴﻂ ﻟﻠﻤﺴﺘﻘﺒﻞ. وهو ما يهمنا في هذا الموضوع.

فالمصادر الأولية تتضمن:
1- السجلات والوثائق: السجلات الرسمية المكتوبة التي تحتوي علـى الإحصـائيات والقوانين والأنظمة. 2- الآثار: وهي شواهد الماضي.
3- الصحف والمجلات التي توضح مدى اهتمام المجتمع بمشكلة معينة، وتكون الصحف أكثر أهمية إذا لم تكن مقيدة برقابة أو اتجاه معين.
4- شهود العيان.
5- المذكرات والسير الذاتية، وهذه تكشف جوانب مهمة من المشكلة.

أما المصادر الثانوية فتتضمن:
1- الدراسات السابقة، وهذه يمكن أن تكون قد اعتمدت على مصادر أولية مباشـرة أقرب للحدث.
2- الكتابات الأدبية والأعمال الفنية، وهذه قد تبرز الكثير من الحقـائق والأحـداث والمواقف المتصلة بموضوع البحث. يمكن الاستزادة بالرجوع إلى:
(ﺍﻟﺒﺤﺚ ﺍﻟﻌﻠﻤﻲ – ﻣﻔﻬﻮﻣﻪ، ﺃﺩﻭﺍﺗﻪ، ﺃﺳﺎﻟﻴبه)ﺩ. ﺫﻭﻗﺎﻥ ﻋﺒﻴﺪﺍﺕ وزملاؤه (ص 173-174 بتصرف) ﺩﺍﺭ مجدﻻﻭﻱ ﻟﻠﻨﺸﺮ ﻭﺍﻟﺘﻮﺯﻳﻊ 1984عمان.

ابن خلدون هو المحور:
لقد أوردت هذا الكلام، لأسلط الضوء على (الوثائق المشيرة والمدللة على مقدمة العلامة عبد الرحمن بن خلدون، ملحق بها كتابه الشهير المسمى بـ(العبر والمبتدأ والخبر لأخبار العرب والعجم والبربر ومن جاورهم من ذوي السلطان الأكبر).

وعلى الرغم من مضي أكثر من ستة عقود على وفاة ابن خلدون الذي عاش (732-808 هـ)(1332-1406م ) لا زالت تفاصيل حياته تشغل هموم الباحثين والمفكرين.

العمران.. هكذا عرف العرب ابن خلدون
والحقيقة أن هذا الموضوع فتحه الأستاذ علي العمران في المحاضرة الجميلة التي جاءت بعنوان (كيف عرف العرب ابن خلدون؟) في نادي الفنار للإنتاج الفني بسيهات بتاريخ 29 أغسطس 2022م.

وشخصيًا أبدي إعجابي وارتياحي للالتفاتات التي قلبها المحاضر، وهي أمور تدعو إلى التفكير والتأمل في كيفية وصول النص الخلدوني إلى العرب؟؟ هل وصل هذا النص إلى العرب، كما كتبه ابن خلدون؟ أم أن هناك شوائب أخرى أصابت هذا النص؟ خصوصًا ونحن نتكلم عن عالم عربي يكتب باللغة العربية، إلا أن هذا النص لم يأت إلى العرب مباشرة.

وهنا يتحدث المحاضر بلغة الوثائق، كيف وأين ومن نقل فكر ابن خلدون ومتى؟؟(بعيدًا عن نص ابن خلدون)، ولقد فهمت من المحاضر، وإن لم تكن صريحة، أن النص الخلدوني لم يصل للمؤرخين العرب خاليًا من التدخلات من قبل مؤرخين ومترجمين أتراك، ومثلهم أوروبيون.

لقد ركز المحاضر في جانب من حديثه عن العلماء الذين نهجوا منهج ابن خلدون، أو ساروا على دربه، أو أنهم ذكروه بالجملة، وبعد كم من السنوات التي مرت على وفاة ابن خلدون (فلقد ذكره كل من (تقي الدين المقريزي من مصر في العام 1442م أي بعد 36 عامًا من وفاته). وذكره أيضًا (ابن حجر العسقلاني من مصر 1449م، أي بعد مرور 43 عامًا من وفاة ابن خلدون.. ووصفه بعدم التقوى)، وكذلك (ابن عربشاه، من مصر في العام 1450م أي بعد وفاة ابن خلدون بـ44 سنة ووصفه بأنه ماكر، بل إنه أمكر من تيمورلنك)، ثم ذكره آخرون مثل (ابن تغري بردي من مصر، وابن الأزرق من الأندلس، ومحمد الأسدي، والمقري التلمساني)، وجميعهم صدرت كتابته في مصر.

وأول محطة انتقل إليها الفكر الخلدوني من اللغة العربية إلى اللغة التركية على أيدي مجموعة من الشخصيات التركية ذات الهوى العثماني، على اختلاف تخصصاتهم، ومن الأسماء التي كانت مهتمة بفكر ابن خلدون ومقدمته (حسب علي العمران) هم (القاضي لويس محمد، حاجي خليفة وهو عامل حكومي، وبيري زاده أحمد صائب وهو قاضي وعضو في مجلس الولاية (المحكمة العليا) يعني كان بمثابة شيخ الإسلام، ثم مصطفى نعيما، وهو عامل حكومي والمؤرخ الرسمي للدولة العثمانية.. وآخرون بحيث أصبحت النخبة الموجودة في الحكم على اطلاع على تنظيرات ابن خلدون خصوصًا ما يتعلق منها بنشوء الدول وسقوطها. إلى هنا ينتهي ما استطعنا الاحتفاظ به من محاضرة المحاضر علي العمران.

ونشير هنا إلى أنه وإن كان العلامة ابن خلدون قد أتم كتابة كتابه (المبتدأ.. ) ومقدمته هذه في العام 780 هـ الموافق 1380م، بعد اعتكافه أربع سنوات في قلعة ابن سلامة، إلا أنه استغرق أربع سنوات أخرى يوثق المصادر، ويزيد ويصحح فيها، ولم يخلص منها إلا في العام 784 هـ (راجع كتاب عبقريات ابن خلدون (الدكتور الوافي، 1984م).وأهداها إلى حاكم تونس آنذاك السلطان أبي العباس في العام 784 هـ الموافق 1382م.

النسخ التي استنسخها ابن خلدون من كتابه
خلاصة القول، أن ابن خلدون كتب أكثر من نسخة من كتابه ومقدمته: وما هو موثق ومعلوم هذه النسخ، وقد تكون هناك نسخ أخرى لم يعلم أين ذهبت.
1. النسخة الأولى هي النسخة سالفة الذكر أهديت إلى سلطان تونس أبي العباس، وكانت هذه النسخة تشمل الخطبة والمقدمة والكتاب الأول وفيها أخبار المغرب وزناته، وبقية أخبار العرب، قبل وبعد الإسلام، وأطلق عليها (النسخة التونسية). كل ذلك كان في العام 784هـ.
2. وعندما رحل ابن خلدون إلى مصر، أعاد النظر فيما كتبه في تونس، فنقح، وأضاف، وحذف
ونسخ من هذه النسخة نسختين، النسخة الأولى أهديت مع بقية مجلدات الكتاب، وأهديت إلى سلطان مصر واسمه (برقوق) في العام 784هـ.
3. النسخة الثالثة، أهديت النسخة الثالثة إلى سلطان المغرب الأقصى في ذلك الوقت (أبو فارس) عبد العزيز وهذه النسخة سميت النسخة الفارسية، نسبة إلى السلطان أبو فارس. ويبدو أن هذه النسخة هي التي اعتمدت.
4. ثمة نسخة رابعة نسخها ابن خلدون، وهي عبارة عن نسخة معدلة من النسخة الفارسية آنفة الذكر، أو هي تعديل لنسخ أخرى.. المهم أن هذه النسخة أثبتت التعديلات في النسخ المحفوظة في مكتبات أوروبا ومصر، ومنها النسخة التي اعتمدت عليها طبعة باريس لكتاب العلامة ابن خلدون.

الطبعات الأساسية لكتاب (العبر والمبتدأ والخبر.. )
كتاب (العبر والمبتدأ والخبر في العرب والعجم والبربر ومن جاورهم من ذوي السلطان الأكبر) للعلامة عبد الرحمن بن خلدون بما فيها مقدمته الشهيرة، والتي على أساسها اعتبر ابن خلدون أبًا ومؤسسًا لعلم الاجتماع.. هذا الكتاب كما اختلف في عدد النسخ اليدوية المنسوخة منه، اختلف في الطبعات التي طبعت منه، وأيهما طبعت في البداية؟ وما إذا كانت مطابقة للنص الأصلي الذي خطه ابن خلدون بنفسه أم لا؟ إلخ.

بالنسبة للطباعة، يوجد طبعات كثيرة طبعت كتاب ابن خلدون، لكن يمكن القول أن الأساس هناك طبعتان أساسيتان، ومنها تفرعت الطبعات الأخرى وفق التصور التالي:
1. طبعة الهوريني المصرية: (رئيسية)
طبع كتاب (العبر والمبتدأ والخبر.. ) لابن خلدون في العام 1274هـ الموافق 1850م بعد مرور ما يقارب 450 عامًا من وفاته، هذه الطباعة تمت تحت إشراف الشيخ نصر الهوريني، وهذه الطبعة منقولة عن النسخة الفارسية مباشرة، لكنها زيدت فصلًا كاملًا قيل إنه سقط من المخطوطة الفارسية، وموجودة في نسخ أخرى.
2. طبعات مأخوذة من طبعة الهوريني (ثانوية).
من الطبعات التي استفادت من طبعة الهوريني، هناك مجموعة من الطبعات جاءت وفق الترتيب التالي:
1) طبعة بولاق مصر (في العام 1868م).
2) طبعة البستاني – بيروت وهي الطبعة التي نشرت تحت إشراف الكاتب رشيد عطية والمعلم عبد الله البستاني، واعتمدت على طبعة الهوريني، ما زاد فيها أنها أدخلت الحركات على جميع الحروف، والملاحظ أن هذه الطبعة شطبت كلام ابن خلدون عن النصارى بدون وجه حق، وهو خلاف الأمانة العلمية.
3) طبعة مصطفى محمد (المكتبة التجارية بمصر) وهي منقولة عن طبعة البستاني بجميع أخطائها.
4) طبعة المطبعة الأدبية ببيروت، وقد طبعت مرتين (الأولى 1879م، والثانية 1886م)وهي منقولة عن طبعة الهوريني، قامت بضبط الحروف بالحركات، وجاء ضبطها خاطئًا في عدة مواضع.
5) طبعة الخشاب (المطبعة الخيرية) لمديرها السيد عمر حسين الخشاب بمصر طبعت في العام 1906م، وقد جاءت مطابقة لطبعة الهوريني، مع تغيير شكل أرقام الصفحات، وإضافة التعريف عن ابن خلدون.
6) طبعة مصطفى فهمي (مطبعة التقدم بمصر) ظهرت بالقطع المتوسط (1329هـ، 1913م تقريبًا وقد جاءت هذه الطبعة متوافقة مع طبعة الخشاب، وكررت نفس الأخطاء.
7) طبعة دار الكتاب اللبناني بيروت 1956م، وقد وقعت دار الكتاب في كثير من الأخطاء بعضها منقول من طبعة البستاني، وهناك أشياء أخرى.(وفي هذه الطبعة أخطاء كثيرة لدرجة أن الدكتور علي عبد الواحد وافي في كتابه (عبقريات ابن خلدون، الصفحة 287) يقول: “كانت تطبع طبعات كثيرة، وتنقل أخطاء الطبعة السابقة وتزيد عليها، حتى إنه لا تكاد تخلو صفحة من صفحات الطبعات المتداولة الآن في العالم العربي من بعض مظاهر من هذه الأخطاء”.
3. طبعة باريس:
وقد أشرف على طبعة باريس المستشرق الفرنسي كاترمير Etienne Quatremere
خلاصة القول، أن ابن خلدون كان لغزًا في حياته، ولغزًا في وفاته، وقد ناقشنا جزئية بسيطة من حياته.



error: المحتوي محمي