ولو تصفّحت أوراقي لتقرأها… رأَيت تأمّلاتي جلّ أوراقى
1. مِمَّا يِؤكّده عُلماء ورُوّاد عِلم النفس، القُدامَى مِنهم والمُعاصِرين، بأنّ مُهمّة “عَقلنا الباطِن” الحاضِن، هي حَلقة وَصْلٍ رَابِطةٍ، جَامِعةٍ بين مُتّسعِ “عَقلنا الواعِي” الأسمَى، ومَاثِل قَاعِدته: “العقل اللّاواعِي” الأدنَى… وبتشبيهٍ آخرٍ، يِمثّل العقل الباطن أجنِحةَ وأروِقةَ مَكتبةٍ حُبلى مُتّسعةٍ، تَضم، في زَخَم جَوانِح دَفّتيها الحاضِرتين، كَمًا هّائلًا مِن جَمعٍ حَاشدٍ- مُتقدّمٍ ومُتأَخّرٍ- مِن أرصِدةِ المعلومَات؛ ومَخزونٍ جَلَلٍ مِن مُكَدّس الذِكريات المُتوارِية؛ ولَقطاتٍ كُثْرٍ مِن خَطْبِ المَواقِف المُتزاحِمة؛ وأصلٍ مَحفوظٍ مِن سِجِلٍّ مَاثلٍ مِن أَرشِيف “فيديوهات” وحَاضرِ صَيد المشاهدِ الحيّةِ، التي التقطت في حِينها، بالصوتِ والصورةِ معًا، وبأَبعادِها الثُلاثيّة المُلوّنة؛ وقد تّمّ تَحميضها بعِنايةٍ، وتَخزينها بدِرايةٍ، في مَقرّ دَارةٍ متّسِعةٍ مِن أَمْهَر تَقنِيات التبوِيب المُبرمج؛ وأَبْرَع فَنِيّات التخزِين المُصَنّف…
2. ومَا بَين ضِفاف مَسارات مَساعِي بُرَه نِعمةِ “القراءة” الفاهِمة الواعِية، يّبْتلّ ويَخْضلّ مَسلكِ بُحبُوحَة التألّق الفِكري؛ ويَنمو نَاتِئًا شَاطِحًا في جَانِبه، الأَغَر الأَزهَر؛ وتَسمو بمَعيّتِه تَرفًا ورَخاءً، رَاية مَباهِجِ السمُو المَعرفِي؛ ويَخفِق احتفاءً برَفاقَتِها، لِواء أسطعِ شَواطئ لَحظاتِ نَثر بُذور التنوِير الفِكري في مَخزون تَلافِيف العقل الباطن؛ لِيظهر شَطأ نُمو تلك البذُور لاحِقًا، عِندما يَستدعِي العقل الواعي طلبَ تلك المعلومة المُحدّدَة مِن مَصرِف العقل الباطِن، وبَعد أَنْ يُبادِرها “بالفلترة” والتهذِيب، والتلمِيع؛ يَندى مُجدّدًا، قائمُ شَطأ “قُوت الفِكر” الرصِين، رَصيدَ قُوّةٍ ومُدّخرَ عَطاءٍ، لَا يَنضبَ رِفدُهما، ولَا يَتضاءلَ مَدُّهما، ولَا يَتناقَص سَيلُهما… وبشَحذِ آلةِ حَفْزِ نَسق “التفكير الصحِيح” وقَدْحِ زِنادِ بَوتقَة “العقل السلِيم” طَوعًا؛ وباستِمالَة لُيونةِ ومُرونَة اشتعالِهما الفعّال، يَتلألأ- بصدّاحةٍ فوّاحةٍ- عَطاؤهما السارِي، في ذُرَى سَمَاحة الروح المُنتعِشة، برَوائح المِسك؛ وتَنضح أصداءُ صِدقِ أصَالتِهما المُرَفّهةِ، بشَذا نَسائم الفِكرِ المُتفتّحِ المُسالِ على مَحطّ شواهدِ مُصاريعها المُتقابلة، كَبَتلات زَهرةٍ أنيقةٍ مُونقةٍ، تَنتظِر لَثمَ، وعِناقَ حَمِيمَين؛ وتَأْذَن، بوِدٍ وتَحنُّنٍ، بجَذْب رَحِيقِها السائغ، لنَحلةٍ فَتيّةٍ، زائرةٍ، تَهفو إلى نَيل أَسْمى وأعْطر كَرمٍ أصيلٍ؛ وتَرنو إلى زَهو الاستمتاع والانتفاع، بفَائقِ وصَادقِ، رَسميّات “بروتوكول” الضيافة المَشهُودة!
3. وتَطُوف آفاق مَراقِ “المعرفة المُكتسبة” بأرِيج عِطرها الفوّاح، على مَشارِف ضَواحِي “خِبرات الحياة” المَصقُولة؛ وتَتنامَى ثَقافةً وفَخرًا، بمَناحِي “رَشاقَة الفِكر” اللّبِق المُتأنّق، بأَسْمى هَبّةِ هّمسَاتِ التصافِي، وأَرهَفِ دَبيبِ “نوتات” نّغماتِ التآخِي، في طُول مَسيرّةِ ” تاج الحِكمةِ” الحَاضِنةِ؛ لِتُعطّر وتؤطّر، عَبير شَذا سَائر “الخِبرات الناضِجة” قَلبًا وقَالبًا!… وهُناك، على وَثِير الأَرائِك، ونَاعِم المَطارِف، يَتمّ تَسلّم وتَقلّد، أَوسِمة، وأَنواط، وأرصِدة رَيع شَفافِية بَوح “المعلومات” المُهداة ذاتيًا، بكَامِل رِفدٍ، وشَامِلِ رَشاقةٍ، بنُعومَةِ كَبسولَاتِها الزاهِية، يدًا بيدٍ؛ برِضا نّفْسٍ، وطِيب نَفَسٍ، ورَاحةِ ضَميرٍ، وإِمساكِ أدنَى زفيرٍ!
4. وفي زِحام أوسَع صُدور؛ ومُعترَك عَريض مُتُون مَجالِس المُصارَحات المُتصارِعة؛ وفي غِمار صَحوَة مُقارَعة مُنتديات “بَوحِ الحَقائق” الدامِغة؛ عِندها تتصَاغَر وتتضاءَل، بوَقاحَة وسَفاهَة، أَحقَر وأنذَل صُفُوف غَباشَة “المُفبرَكات” الهشّة، في عُقر فُتاتِ أَشلاءِ بيتِها العَنكَبوتِي الواهِن!… وهُناك، على مَقربةٍ مِن حَواف الشاطئ اليَباب، تتزاحَم على كِسَرَات لُقمةِ قَصْعتِها الزهِيدة، لُهاث أفواه الأَهْمَاج الرّعاع مِن عَامة الناس؛ فَلا تَجِد مَا يَسدّ الرمَق؛ ولا تَلوِي على مَا يُجبُر الخاطر!
5. وعَودًا حَميدًا إلى مُصادَقةِ رَجاحَة، وإقرارِ حَصافَة نَظر العقل الواعِي، عِند اشتِداد واحتِداد شِدّة أمرٍ مَا… وبَعدها، يتمّ استصدار مَا يَسرّ نَضَارة النفس، ويُبهِج طِيب الخاطِر، ويُريح دَاخِلة الضمِير، مِن رَائق أحكَامِه الصائبة، وفَائقِ رُؤىً حَائرة مُتردّدة مِن أمامِه؛ لتُحسَم، بِأريحيّة وجِديّة، ضَبابيّةُ المَوقِف المُتأزّم ذاتِه، وتُنهَى إشكاليةُ ذلك الأمرٍ المُستحوِذِ المَفصَلي بفضَاضَته، في رِعاية أحضَان ظِلال مِظلّة الحِكمة الراشِدة؛ واتّساعِ إنعام يَنبوع الرِّفد العقلي النشِط، بَعد أنْ ارتقَى، وتَصَعَّد، وتنفّس الصعدَاء، إلى ناصِية الفِكر، ذلك الأمرُ ذاتُه، مِن طُول رَقدَةِ مَخزونِ حَقيبةِ العقل الباطن، إلى صَحوةِ مَكشُوفِ مَنضدةِ سَماحةِ العقل الواعِي، الفيصلِ الرائد… وهُناك يَبرز- بصُدوحٍ ووُضوحٍ- أصل رِتاج الحقيقة الدامِغة، بأنَّ صَحوة عَقلنا الواعي البِكر، مَا هي إلّا استراحة مَصبّ مَعلوماتٍ مُنسابةٍ نافعةٍ، كأرٍض خِصْبةٍ، يَنسابُ فيها نمِير الماء الرقْرَاق؛ ويَلُفّها يانِع العُشبِ والكَلَأ، وليسَت سَاحَةً قَاحِلةًً قَفرًا، لِمَكَبّ مُخلّفاتٍ ونَفاياتٍ فاسِدةٍ…! وفيمَا يُروَى عن نَبينا الكَريم، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم: (قِوّامُ المَرْءِ عَقْلُهُ).*
*موسوعة روائع الحكمة والأقوال الخالدة، ص 441.