لكنَّها لم ترحل.. (12)

وماذا بعد؟! تسأل حنان

استمررت في التّواصل معه عبر البريد الإلكتروني، مع هذا المجهول، هذا الطّيف القادم من بعيد، والذي سيرحل في القريب، احتضن موهبتي، كاحتضان الأم لطفلها.

كنت أبعث إليه كتاباتي باستمرار، كما طلب مني، ويقُوم بالتّوجيه، والإرشاد، بعد تعليقه المُستفيض عليها، وتبيان نقاط القُوة، والضّعف فيها.

إنه على الدّوام، يجعلني أتعلم من خلال الخبرة، فلا يقُوم بتعديل النّص كما يفعل البعض، حيث يقُوم البعض بتعديل النّصوص، أو الإصدار بشكل كبير، تغيب من خلاله شخصية الكاتب، وفكرته، وأسلوبه.

هذا ما اكتشفته لاحقًا، عبر تلك السّنوات، وبعد هذه المرحلة، التي وصلت إلى استيعابها، وجلست على حافة نخيلها، وبعد غياب رسائل هذا المجهول، التي أصبحت الذّكريات كلّها، تبدأ به، وتمرّ من خلاله، وستنتهي لا محالة على ضفتيّ الحُلم؛ لأنه يسكنني.

ثلاث سنوات، واختفى هذا المجهول من حياتي، كنت أنتظر رسائله، فلا تصل، أقوم بفتح البريد الإلكتروني في اليوم مرارًا، ولا جدوى من سبيل إليه، إلى كلماته، إلى ظلّه.

هل تعلمين يا حنان، كيف كان الفراق، ما المُناسبة، وفي أي موقف؟ تسأل ياسمين وتمسح دمعة سقطت من عينيها

تُجيب ياسمين..

كساه الغياب، عندما أصدرت مجموعتي القصصية الأولى، فرح كثيرًا بي، بعث لي هدية، لم تكن شيئًا ملموسًا، خاضعًا لقانون الطّبيعة، وليس مُجردًا عن الحسً، وإن كان يفتقد المادة الحسية، جاءت هديته عبارة عن رواية أدبية كتبها بأنامله، وطعمها برُوحه، وسكبها بأفكاره، وتطلعاته.

يكتبني في روايته، جعلني بطلته، مرر من خلالي غُربته، ما يختزله من ثقافة، لم يُشبعها ألقًا إلى تحت مظلة رمشي، رواية أدبية عُمرها الزّمني ثلاث سنوات، أتراه زرع أول بذرة في تُربها مُنذ رسالته الأولى.

يهدأ صوت ياسمين، تسترجع أنفاسها، تُكمل حديثها، والصّمت، يُخيم على شفتي حنان، وعينيها.

أتعلمين يا حنان، حتى رسائلي، التي أرسلها إليه، تحتضن نُصوصي، بعض كلمات أبعثها، لتُعبر عن امتناني إليه، تعليقي على مُلاحظاته، كل هذا جعله حدثًا دراميًا، قرأته في الرّواية، لأعيد استرجاع ما كان، وأمنيتي بألا يرحل، ولكنَّه رحل.

أن يكتب لك روائي، كان له الأثر في تغيير حياتكِ، ولا تعرفين ملامح وجهه، ولم تسقط عيناكِ على أبجديته ذات يقظة من الوقت، أو غفلة عنه، فإنَّ ما يضجّ في أعماق رُوحكِ، لن تُوفيه الكلمات وصفًا، وتعبيرًا.

كان يُبلسم كلّ آهاتي، يُجفف عرق جبيني بكلماته، يقرأ ياسمين، كأنَّه مرآة صافية، أجدني فيها.

في نهاية روايته، التي لم يضع لها عنوانًا، وإلى هذه اللّحظة لا أعلم سرّ ذلك، كتب: “وهمس في أذنيها، قرأت ذات أمل، يُشيعه الألم كلمات مي زيادة، لأتخذ منها أسلوب حياة، وهي: قضيت عُمري كلّه، وأنا أشعر دائمًا بأنّ عليَّ أن أغادر، وأتوارى خلف الكلمات.

وكتب في رسالته، هذه العبارة: “وعندما تكسرك الحياة، فأنت أقوى؛ لأنَّك تنبض بالحُب، وتقرأ في عينيها العسليتين حكاية الشّوق، وفي شفتيها الضّحكة الحُبلى باللّطف، كفاكهة، ألوانها تُهديك الحنان.

وحيدًا أراني، أقلب دفتر الذّكريات، وأنادي عليكِ بكلّ حروف النّداء؛ لأستعير من عينيكِ الكلمات، وأجعل رمشيكِ ظلّا، أحبو فوق لمعانهِ، ليُضيء القلب، وتبقى أظافر الغُربة الخرساء، تنهش أضلاعي، وحيدًا، كأغصان العصافير، تبكي، تنأى زقزقاتها بعيدًا، تشتاقها في الأنحاء، لونًا، يُشبهني.

هكذا هي الحياة ياسمين، لتكن العشق بألوانها، بالأبيض، كقلبكِ، وبالأسود، كرموش عينيكِ، لا تمنحي الحُزن، الإحباط، أن يتسرب إلى رُوحك، يُفسدها، بادري بالجهد والاجتهاد إلى تحقيق أحلامكِ، ليكن اليراع، توأم روحكِ، وأنيس قلبكِ، والنّافذة، التي تجلسين بجانبها، وفي يديكِ كتاب، وبين أصابعكِ يراعكِ، كوني بخير أيَّتها الكاتبة المًتألقة. صديق رُوحكِ المجهول، الذي عرف قيمتكِ، وأيقن أنكِ ذات يوم، ستُغدقين القرطاس إبداعًا.

مع السّلامة، وليس هناك أمل في اللقاء، سوى أبجديتكِ، ستصلني، لأكون القارئ الأول لك”.

انظري حنان، إنّي احتفظ بها في هاتفي النَّقال، وضعتها في المُلاحظات، لأقرأها كلّما شعرت بالقلق، والبُؤس، والألم، لأنفض عن رُوحي ما يجعلها حزينة، وإرادتي مُترهلة.

وتعلم الدقائق أن اجتياح اليبس في شفاه الأزمنة، تُغرق الأسئلة بي، فلا تكتمل زقزقة المعنى، كالكلمات، يُغرقها البوح، ولا زالت تبوح. تنتحب ياسمين.



error: المحتوي محمي