ولو تصفحت أوراقي لتقرأها… رأيت تأملاتي جل أوراقي
1. لَعَلّ لفظة “النُّوْر” وأختَها النّد الولِيف المُترافِقة “الديْجُور” مُتضادّتان في أصلِ “المَعنى والمَغنى” ومُتعاقِبتان تِباعًا، في ظَاهِرة وَقت الظهُور والاحتِجاب، وهُما مَدخَلَان ودَليلَان شَاهِدَان؛ لتَغشّي وتَجلّي الآيتين الربّانيتين- الليل والنهار- إِذ لَا يَنبغي لِظلّ أحدِهما الحاضِر أنْ يَسبق الآخر، أو يُلغي وُجُودَه الراتِب، أو مَجيئَه المُوقّت، جُملةً وتَفصيلًا… وقد أجَاد وأبدَع خَالقهما البارئ المُبدِع، جلّت قُدرته، بمَعيّةِ نَسقِ سِلسِلةِ مَنظومةِ الأجْرام السماويًة الهائلة، السابِحة في مَسارات أفلاكِها المُحدّدة؛ وجَعل قُرصَ الشمسِ الوهّاجِ، مَصدرًا ومِحورًا أسَاسًا لانبِعاث الضّوء الكَوني- حَسَب عِلمِنا- وصَيّر سَائر مَنظومَة الكواكب السيّارة تَدُور في فلَكِها، بأبعادِها المُحدّدة؛ وخَصّ كَوكَبنا الأرضِي بحِصّته المقسُومّة بقِسطٍ وافرٍ مُقنّنٍ مِن ضَوء الشمس- عِلمًا ومَعرفةً، وقَانونًا- مِن لَدن بَسطةِ تَليدِ أحكَام قَوانين مَراتِب خَلقه؛ وحُسن انتفاع سَائر مَخلوقاته؛ وكَمال إتمام دَيمومَة دَورَة الحياة الدابّة، على وَجه البسيطة، بكامِل “مِيكانِيكيّةِ” حَركتِها المُدبّرة، وبكُنهِ أسرار كَيفِياتِها الربانيّةِ المُيسّرةِ؛ وإِبدَاع إحْكام صُنعه الجَبّار، أيّما إِبداع… ولله في سَائر خلقِه شُؤون!
2. ومَعَ تَطوّر عِلم الفلك الحَديث، في غَمرةِ زِحَام التنافُس العِلمي، ومَعمَعةِ التسابُق المَعرفِي، الذي يَشهدَه رَبيع هذا العِلم المُتنامِي، نَتيجة حَتميّة رَائدة، غير مْسبِوقَةِ؛ لهبّة ونفرَة خُلاصَات الأبحاث العلمية النشِطة؛ لإشباع فُضول ومُيول، دَاخلة الإنسان؛ لاكتشَاف جُزءٍ يَسيرٍ مَستورٍ مِن كُنهِ عَظمة هذا الكَون المُثير؛ فقد سَعَى ثُلّة العلماء الباحِثين- عن كَثب- إلى استعمالِ واستثمارِ حَاضر مَلكة عُقولِهم المُتألّقة والمُتعلقة، بمنظُومَات وسَلاسِل مُتعاقِبة مِن الأبحاث العلمية؛ ورَسْم مُتُونٍ مِن الفَرضِيّات؛ وسَكّ أحدَث النظريّات… كلّ تلك المُحاولات المُكلّفة أموالًا طَائلةً، وأوقاتًا بَحثيّةً مَديدةً، وعُقودًا مُتتاليةً مِن الدراسَة، والتفكّر والتدبّر؛ بات رَيعُ مَردودِهم العَلمِي والمَعرفِي المُعاصِر، وَاقِعًا مَلموسًا، يَتكشَّف بجَلاءٍ وإبانةٍ، يومًا بَعد يومِ؛ مِمّا أينعَت وسَاهَمت أزكَى ثِمار قُصَارى شَغف تِلك المُحاوَلات؛ وغَاياتها الجَمّة، ومِثلها مِن الجُهود الجَماعية الناجِحة؛ وتكاتف فُرق العمل البحثِية؛ واضطلاع أروِقة وِكالات الفضاء الفلكية الطموح، إلى إرساء زَخَمٍ جَاثمٍ مِن وَاقع مَصفوفَة أرتال مُباركة، مِن مَواكب أسْفاط الهَواجِس، وسِلال المُغَيّبَات، في نَواصِي فِكر الروّاد الأَوائل والمُتأخّرين مِن العلماء البحّاثَة النحَارِير، وعلى أسطُح مَناضِد أبحاث أحدَث مُختبراتهم العصريّة الرائدَة… إذ أصبَحت تلك المَهامِ العلميةِ جُلّ شُغلهم الشاغِل، في صَحوةٍ مِن رَابعةِ النهار؛ ومِثلها، في طَائفة مِن هَجعَة قِطْعِ الليلِ الأَليل!
3. وعَلى مَرّ العُصور السالِفة، ومُختلفِ الدهُور المُتصرّمة، تأَسّس، فِكر ووِجدان الإنسان المُتحضّر؛ واتّجها بتنامٍ، نحو التفكر والتدبر في عَظمة الكون، مِن حَوله؛ مُحاولًا فكّ ومَعرفَة بعض أسرارِه؛ وعلى إثرِ ذلك، تَوثّقَ مَدقُ جُذور عَلاقة وَثِيقةٍ مَتينةٍ، بين الأرض والسماء؛ وانبَرى قاطِنُ الكوكب الأرضِي، بشَجاعَةٍ ونَباهَةٍ، إلى دّقّ مَحطِّ ارتباطٍ وِجداني راسِخ، بَينه، وبَين طَلّة فَلقة القمر الساطِعة الوضّاءة، السابِحة في فَلك عَنان غَمرة الفضاء الكونِي العظيم؛ وبَادَله بَالِغ أحاسِيس الغَزَل؛ وقَايَضه شَدِيد عَواطِف الوَلَه؛ وقَاسَمه ناعِم مَشاعِر الهُيام؛ وخَصّه برقِيق مَباهِج الإلهَام؛ ومَنَحه جَنان بَذرَةَ الحُبّ المُستهَام؛ ليأْخُذ مَكانَه اللّائق المُستضَاف، في دَواخل صُدُور، ونَواصِي عُقول المُتحابّين العاشِقين، بشِحناتٍ مِن أرتالِ فُيوضِ العِشق الحَاشِدة؛ وطَوابِيرٍ مُتواكبة مِن شَذا طيّات الغرام المُتيّم، بمَعيّةِ حَرَاك دَوران فلقة القمر الدائبة، حّول الأرض؛ وإشراقة طَلعته البهيّة المُنجذِبة، حَول مُحيط- مَسقط رَاسه- كَوكب الأرض المُتناغِم… !
4. وإذا كانت بُوصَلة استِدامَة وسَرمَديّة حَركة تعاقُب الليل والنهار، مَرهُونة بدوَران الأرض الذاتي حَول مِحورِها؛ وتَحُفّهما الكثير مِن سيلٍ جَارف مَستُورٍ مِن دَفَقٍ مُستخفٍّ مِن الطوارقِ المَكنونَةِ؛ وتَستُرهما قُبّةٌ مُطبقةٌ مِن هَرْقٍ مَكتُومِ الحوادِث المُفاجِئة.. فاستدارة فَلقة القمر النورانيّة المرئيّة ذاتِها، تلفّها وتَكسُوها الكثير مِن الخَبايا المُغيّبة عَن عَيني الناظر المُستهَام… وأولُ مَظهرٍ للحقيقة الصادِمة، يَكِشف عَن أنَّ واقِع جِسم القمر المُشِع، مَا هو إلاّ كُتلة كُرويّة صَخرِيّة مُظلِمة سَحْمَاء كاتِمة، خَالِية مِن أثر الحياة على ظَهرِها؛ تُميّزها آثار حُفَر سَوداء، غير مُنتظمة؛ وتَكسُوها مَشاهِد آثار رُسُوم أَخادِيد سَمراء بَارِزة؛ تُثيرُ وتَبعثُ- بجَوهَر حَقيقَتها البادِية- صَعْقةَ صَدمةٍ نَوعِيةٍ؛ وتَستدعِي صَرْعةً مِن التناقُضِ والتنافُرِ الوجدانيين، بين مَخبَرِ الحقيقة الصادِم، عَن قُربٍ؛ ومَظهَر خِداع الإغراء الجاذِب، عن بُعدٍ… !
5. ولّعَلّهُ مِن المُثِير والمُمتِع حَقًا، استحضَار نَهَم مَسَيرة فِكر الطالب الدارِس في عِلم الفلك، وعُلوم الفيزياء والفضاء الفلكية الحَديثة؛ ومِن جَانبٍ آخرٍ، يَبرز عَمليًا، اضصلاع عَالِم الفلك المُتبَحّر النِّحرِير، بأَسَاسِيات وفُروع مَتن مِنهاج عِلم الفلك الشامل؛ وكَذا تَعمِيق شَغَف الهاوِي المُتتبّع النشِط في عُمقِ سَبر مَجالات هذا العِلم؛ ومَعرفةِ أسمَى أغَوار مُكتسباته الواسعة… ويَدركُون طُلابه، وأَساتذته، وهُواته؛ ويَألفُون جَميعًا- إِثارة جَذب التعلّم الماتَعة، ومُتعة ذُروة التفكر الرائدة؛ ويِحَفّزُون- في ذَواتهم- رَغبة التوسّع في قَدح هَبّة الاستزَادة العلمية المُتجَدّدة، المَكنونة في دَفتَي المنهج الاستشرافِي المُثير والمُمتِع، لسائر دِراسة واستِكشاف المِئات مِن عَالَم الأجرام والمَجرّات السيارة، ومِثلها المُذنّبات الخاطِفة، والنجوم الطوارِق، وأخواتها الثواقِب الهائلة… ولعل المُثِير في هَذا المجال، مَا أخبر به وسَطّره الإِعجَاز القرآني مِن مُغيّباتٍ وأَسرارٍ، ومَآلات فَلكية وكَونية… ! ورُبما مَا يَحظَى به الطالب الدارِس- شَغفًا ووَلعًا- في بَسْطَة عِلم الفلك، بقسطٍ وافرٍ أكثر مِن غَيره؛ لتعدّدِ، وتَجدّدِ، وتَنوّعِ، وتَوسّعِ مَصادِر ومَنابع التعلّم الحديثة المُتاحَة… ومثلها، وَسائل المَعرفة الشامِلة، القديمة مِنها والحديثة، مِثل: قاعة المُحاضَرات، والقُبّة السماويّة، والمَرصَد الفلكِي، ومُقتنَيات المكتبة العلميّة المتخصّصَة الحديثة، كالحَواسِب الذكيّة، ومَا استجد في علم تقنيات التوثيق الفضائي المُتجدّد… هذا، وكُلّ مَا حَظيت به، وارتضته مَكاسِب عِلم الفلك، والفِيزياء الفلكيّة المُتواضِعة- قَديمها وحَديثها- مَا هو إِلّا قَطرة مَاءٍ صَغيرة، لا تكاد تُرى، في لُجّة مَدّ مُحيط عِلم الملكُوت الإلهي، المَبثُوث للعالمين، شَفقةً ورَحمةً، في بُطون الأرضِين المَبسوطَة؛ والمَنثُور، عَظمةً وتَجِلّةً، في اتساع بِناء مُحكَمِ في مَدارَات وسُدُم فَضاءات السماوات الطِّبَاق… وقد صّدَق مَا وَعدَه وقنّنَه الخالقُ العظيم بقوله: (… وَمَآ أُوتِيْتُم مَّنَ العِلمِ إِلّا قَلِيلًا).