
انقضت الإجازة سريعًا، استعدّت ياسمين للذّهاب إلى المحطة، وهي تحمل الذّكريات الجميلة لبضعة أشهر من زواجها، تسترجعها على همس الشّوارع، وأصابعها تعبث بهاتفها النّقال، تكتب بعض كلمات، عزمت على إرسالها إلى إبراهيم بعد أن يستقر بها الجلوس على مقعد الحافلة.. .
ودعته..، رمقت حنان قادمة باتجاه الحافلة، التي تقف بجانبهما، صافحتها، وركبتا مع بعضهما، والابتسامة، يُخفيها سواد الخمار.
كم اشتقت لك ياسمين. تهمس في أذنيها حنان
تضغط ياسمين على أصابع حنان، وهي تتنفس، كانفراج زهرة حمراء للتو أذن لها بأن تفتح حُمرتها إلى الأزهار.
طوال الطّريق، كانت حنان، تُمارس عمل المُحقق، تسأل ياسمين عن هذه الأشهر، غير الاعتيادية مع حياتها الجديدة، وياسمين تُطلق العنان إلى قلبها بأن يقُوم بعملية سرد التّفاصيل، وحنان، يعلوها الأنس في الإصغاء، إلى أن وصلت الحافلة إلى مقر السّكن.
وقفتا عند باب الشّقة، قامت حنان بالضّغط على الجرس، تفاجأت ياسمين، أخبرتها حنان بأنَّ عبير موجودة منذ صباح اليوم، لتقُوم بتنظيف الشّقة، وتُجهيز احتفالية صغيرة بعروستنا الجميلة، احمرّت وجنتا ياسمين، يبدو أنَّ الخجل انتاب مُحياها، وحنان تضحك.
فتحت عبير الباب، وعانقت ياسمين بشوق، ودعتهما للدّخول، رائحة المكان، تبعث على الرُومانسية، كلّ شيء مُرتب، العشاء مُتنوع الأطباق، كأنَّه لوحة فنية، وكيكة، تُزينها الشّموع، مكتوب على بياضها: ألف مبروك يا قلب حنان وعبير، ياسمين، تُحدق في اللاشيء، ونزلت دمعة ساخنة على خدها بهدوء، كأنَّها لا تُريد أنت تسقط، لتقف في مُنتصفه، كاللؤلؤ، أو قطعة ذهب تلمع خلف زجاج محل المُجوهرات.
كانت ليلة جميلة، استمتعن فيها، حتى لم يؤثر عليهنَّ غياب الأخريات، لتحتضهنَّ الشّقة، كلّ واحدة أصبحت لها حُجرتها الخاصة، إلا أنَّ حنان، كعادتها توجهت إلى ياسمين، تجلس معها، قبل النّوم، وكانت ياسمين، تقرأ رواية أدبية، وضعت الكتاب جانبًا، وعدّلت من جلستها.. .
استأذنت منها.. .
هل تسمحين لي بقطع هذا التّوهج القرائي، وأكون ضيفة ثقيلة؟
نعم، كوني ضيفة خفيفة الظلّ، وبهجة الرّوح.. . تُجيبها ياسمين بدفء
تسألها حنان، وعيناها كسهم تُصوبه إلى عيني ياسمين:
ياسمين، أنتِ كاتبة، لم تُحدثيني عن هذا الجانب من حياتكِ، هل صدرت لكِ كتب من تأليفكِ؟
دائمًا تُغريني للحديث عن ذاتي، إلى انتفاض الذّاكرة، أهكذا هنَّ الفنانات يا حنان، تُلهمهن التّفاصيل، التي لا تُرى، الألوان غير المكشوفة، إلا في خيالاتهن؟!
دعكِ من الفنانات، أنتظر إجابتكِ.. . تقُول حنان
حسنًا، إن كانت هذه رغبتكِ، انتظري قليلًا، سأقوم بإعداد القهوة، يبدو أنَّ هذه اللّيلة لها طعم آخر.
توجهت إلى المطبخ، أعدّت القهوة، وجلست بجانب حنان.. .
يا حنان..، كان حلمي مُنذ طُفولتي أن أصبح كاتبة، ويكون فارس أحلامي كاتبًا، يعشق اللّغة، يُشاركني رغوتها، أفكاري لا تضيع بين أصابعه، يُتقن تفسيرها، ويفك رسائلها، التي لا تحتاج إلى ساعي بريد.
رحلتي في عالم الكتابة أجهدتني كثيرًا، كنت الكاتبة الصّغيرة، التي تسعى إلى النّضج، إلى القراءة المُستفيضة، إلى من يحتضن موهبتها، ولكن موهبتي لم تلق من يُحفزها، أصبحت غريبة بين مرايا، يشُوبها الغبار، وبقايا أمطار، كوحل التصق بها.
سعيت إلى تكوين صداقات عبر الأبجدية، كان اقتناء الكتب عشيقي الذي أنتظره، وكلّما عانقني عبر كتاب، ازداد شوقي إلى عناقه في كتاب آخر، هكذا العشق لا ينضب معينه، كلّما اقتربت منه، ازداد الشّوق للإغراق فيه أكثر، أتخيله في المسافة بين الكلمة والأخرى، بين المعاني الظّاهرة، والضّمنية، بين مُعالجة، تقُودها تقنية السّؤال، كأنّي ناقدة، تُشقلب المعنى، وتصفعه بالسّؤال.
كانت سنوات، صقلت فيها موهبتي إلى حيث الآن، مُتعلقة في بياض القرطاس، أغرس بُذور أفكاري، وذاتي المُتعطشة إليَّ، أحرثها باليراع، لتُصبح الكتابة أنيستي، وملاذي، الانقطاع التّام
من الوقت، وحقيقة الشيء، إلى تخيلاتي، أحيانًا يا حنان، يكون الخيال أجمل من الواقع، ويُضفي على الواقع اللّمعان، كعيني عاشقة، تلمع إن لمحت طيفه ذات اشتياق عابر.
أقطع المسافات بحثًا عنه، كجسد، أراني وحيدة، أعانق كتابًا، لا أشعر بالوقت، يمرّ كطيف، كبرق خاطف، يحتلني، يشغلني بالرغم من هذا الهُدوء، الذي يسكن الزّوايا من حولي، يقُول “بروست”: في هذا الفندق الفارغِ تمامًا، لم أكن أخشى الوحدة، ولم يسبق لي أن شعرت بالسّأم، بل إنَّ خيالي ملأ كلّ الفراغات، وكان وحده كافيًا ليشغلني.
كنت أبكي كثيرًا، لكوني عاشقة، أخلق من خيالاتي قصة حُب، أعيشها في كتاب أقرؤه، في كلمات متناثرة في الأمكنة، فإنَّ قصص الحُب الأكثر صدقًا، تجعل العينين، تتنفس البُكاء، يقُول فيكتور هوغو: ثمّة لحظاتٌ تكونُ فيها الروحُ جاثيةً على ركبتَيها مهما كان وضعُ الجسد.