أرجو من القارئ الكريم ألا يقرأ في أيٍّ من الخواطر التي أكتبها عن الموتِ والحياة والمشيب أنّ فيها سوداوية، وأنّ الحياة كرة نركلها بأقدامنا، لا تساوي شيئًا! على العكس تمامًا، أنا أحبّ الحياة، وأتطلع مع بزوغِ كل فجرٍ إلى ميلاد يومٍ جديد، أكتب فيه وأتواصل مع القراء الكرام.
لكن الحياة لا تنفكّ أجراسها تؤذّن وتقيم في آذاننا كلّ حين؛ عمر، شيب، شيخوخة، مرض، وموت! أجراس تصرخ كل يوم قائلةً: اسمعوني!
في الحياة أجراسُ إنذار مهمتها إيقاظ مشاعرنا من الغفلة؛ فلانٌ مات، فلانٌ سافر، فلانٌ مرض، أجراس تذكرنا بأن الأيام مداولة بين الناس، اغتنموا الفرص! كنتَ فخورًا مزهوًّا بالشباب، مفتونًا بالقوة، مغرورًا بالمال! عمَّرك الله، كل ذلك يزول!
آخر جرسٍ من أجراس الحياة يدق مرّة واحدة -على حينِ غفلة- {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ}، أنتم -القراء الكرام- سمعتموهُ وفهمتموهُ من قبل أن يدقّ وتجهّزتم له! أما المذنب والمشرك حين يسمع الجرس تزول عنه حجبُ الغفلة والغرور، فيرى بأم عينه مصيره المؤلم، لا مالَ ولا جاهَ ولا قوة! فيرتفع صراخه وعويله: سامحني يا رب، أعطني فرصةً أخرى وسوف ترى أني أكون صالحًا! يأتي النداء: هذا طريق في اتجاهٍ واحد، ممنوع العودة للوراء {كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا}. أعطيناكَ فرصًا كثيرة، نبهناكَ وأيقظناكَ بأنواعِ وأنماطِ الأجراس، ولو أعطيناكَ فرصةً أخرى تعود كما كنتَ وتفعل ما فعلت!
خلاصة الفكرة، تمر الفصولُ والسنوات، نصير شبّانًا ثم شيبًا، ليس من أجل أن نبغض الحياة ونكرهها! بل من أجل أن ننصت لها ونسمعها. وهنا أستحضرُ لكم أبياتًا من الشعر للشاعر المعروف دعبل الخزاعي من أجل أن تتصالحوا مع الشيب:
أَينَ الشَبابُ وَأَيَّةً سَلَكا ..لا أَينَ يُطلَبُ ضَلَّ بَل هَلَكا
لا تَعجَبي يا سَلمُ مِنْ رَجُلٍ .. ضحكَ المشيبُ برأسهِ فبكى
قدْ كانَ يضحكُ في شيبتهِ .. وَأَتَى المشيبُ فقلَّما ضَحِكَا
يا سلمَ ما بالشَّيبِ منقصة ُ .. لا سُوقَة ً يُبْقي وَلاَ مَلِكا
حكمةٌ يقولها الشيب دونَ لسان! كلمة يعلنها دون ميعاد! لكننا لا نريد ولا نرغب في سماع الشيب الضاحك في رؤوسنا!