سيرة الإمام علي الرضا (ع) تفيض بالعطاء على مستوى الأصعدة المختلفة وتدفعنا نحو الألق والتكامل، ولذا لا ينبغي علينا تضييع هذه التحفة السنية والكنز المليء بالمواعظ والدروس الثمينة -أي السيرة الرضوية-، فدروب الحياة المتشعبة والأفكار المتباينة والسلوكيات المتنوعة تمثل تيارات أمواج قد تأخذ بنا بعيدًا عن ساحل النجاة وتسلب منا الهدوء النفسي والإحساس بالأمان، وأما إذا كنا نمسك بقبس نور نشعله ليضيء لنا الطريق الصحيح ويجنبنا المتاهات المضيعة فإننا نكون قد ظفرنا بالمؤمل والمطلوب، وسيرة الإمام الرضا (ع) ضياء يشرق في أنفسنا فيحييها حياة الرشد والكرامة والطهارة النفسية والتكامل الروحي والأخلاقي والاجتماعي.
والخطوة الأولى في هذه المنهجية المتعلقة بالاقتداء بالإمام الرضا تبدأ من التأمل والتدبر في حياته الشريفة وما يتعلق بمواقفه التي تربينا على الحياة الفاضلة، وهذا ما يحتم علينا تقديم تلك السيرة الشريفة بمنهجية تربوية تناسب المستوى العقلي للجميع.
الإمام الرضا (ع) صاحب العطاء العلمي الذي نهل منه عشاق المعرفة من جميع الاتجاهات الدينية والفكرية، وهذا ما يشكل عندنا دافعًا وعاملًا محفزًا نحو تنشيط قدراتنا وملكاتنا العقلية والعمليات الفكرية، من خلال الاطلاع وقراءة الكتب وعقد الجلسات التثقيفية على مستوى الأسرة ودور العبادة والمجالس، يتم خلالها تبادل الأفكار وطرح الموضوعات المفيدة والاستماع لوجهات النظر المختلفة، فالعمليات التفكيرية من بحث واستنتاج واستقراء واستخلاص النتائج مادتها وخامتها هي تلك المواد العلمية المتداولة بين الأفراد، وتعد هذه العملية التثقيفية منهجًا نتأسى فيه -حقيقة- بشخصية الإمام الرضا، والذي فاضت علومه في تلك الجلسات العلمية التي كان يعقدها أو يحضرها، ولكن -مع الأسف- نجد البعض لا يولي ذلك أهمية ويعده نوعًا من إضاعة الوقت، متناسين أن تنمية القدرات العقلية تتم في أجواء عملية يكتسب من خلالها الفرد الثروة اللغوية وأسلوب الحوار والومضات المعرفية التي تحرك مدركاته التفكيرية، وتشكل له في المستقبل منهجية فكرية تساعده في رسم أهدافه وآماله وسبل اتخاذ القرارات الحاسمة والمناسبة.
والإمام الرضا (ع) مدرسة أخلاقية تهذب النفوس وتصنع منا شخصيات تترفع عن العيوب والنقائص وتبحث عن عوامل الرفعة والكرامة والقوة والإرادة الصلبة، فالحياة تجابهنا فيها الصعوبات والضغوط النفسية والانفعالات والتي تشكل عامل إرهاق وتوتر يسلب راحة البال ويشتت العقل عن التفكير المتزن، وليس هناك من عامل سعادة كالطمأنينة والهدوء النفسي، فكيف يمكننا مواجهة تلك الضغوط دون أن نفقد الحكمة في المنطق والخلق الرفيع في التعامل؟
محراب العبادة عامل مهم في هدوء النفس والتخلص من الهموم والمتاعب، حيث إن النفس تستعيد ألقها ونشاطها بعد مناجاة الله تعالى والوقوف بين يديه، فالصلاة تذكرنا بأن ما يمر بنا من مصاعب هو ابتلاء إلهي ولا يسير الكون وما فيه عبثًا، بل هو يخضع للتدبير الإلهي، وهذا ما يجدد عهدنا بالأمل والثقة بالله تعالى، والنهوض مجددًا في ميدان العمل، وتلاوة القرآن الكريم التدبرية تكسبنا الحكمة والمنطقية في حديثنا وتصرفاتنا، إذ نكتسب النظر في عواقب الأمور قبل الإقدام على أي خطوة أو النطق بأي كلمة، فالحديث القرآني عن عالم الآخرة يورثنا الفهم وتجنب العبثية ويقشع عن أعيننا الغفلة، ومما يرتقي بالنفس والعقل إلى أعلى درجات التكامل هو النظر في الجانب التعبدي للإمام الرضا (ع) والذي انقطع لله تعالى، فالتأسي بالحالة التعبدية للإمام (ع) يشكل شخصياتنا وفق الفهم الصحيح والبناء القوي في علاقتنا بالله تعالى ومواجهة مصاعب الحياة من خلال القوة الإيمانية النورانية، فقد كان الإمام الرضا يوصي أصحابه، قائلًا: “كلام الله لا تتجاوزوه ولا تطلبوا الهدى في غيره فتضلّوا” (عيون أخبار الرضا ج 2 ص 27).
والتعامل الحسن مع الآخرين المبني على الاحترام والتقدير وعدم التكبر نجده جليًا في سيرة الإمام الرضا (ع)، يروي إبراهيم بن العباس الصولي في وصف تعامل الإمام الرضا (ع): “ما رأيت أبا الحسن الرضا عليه السلام جفا أحدًا بكلامه قط، وما رأيته قطع على أحد كلامه قط حتى يفرغ منه.. “، فهذا التعامل الرائع من الإمام الرضا (ع) لو اتبعناه لاكتسبنا القبول الاجتماعي والحب بين أكثر الناس، فتربية النفس على احترام حقوق الآخرين يشمل استماع حديثه وعدم مقاطعته وتجنب رفع الصوت، والإنسانية تجد في السيرة الرضوية ضالتها في بناء العلاقات الاجتماعية المستقرة والبعيدة عن التوترات المؤدية إلى ضعف المجتمع وتجمد مشروعاته التنموية، فالسلم والأمان المجتمعي يبنى من خلال العلاقات السليمة القائمة على الأسس التي دعا لها الإمام الرضا ووجدها الناس جلية ومتجسدة في تعامله مع الجميع.