غياب الرشد والقيم الأخلاقية قي يوم الطفوف

من أهم الدروس المستوحاة من عاشوراء هو تقييم الذات وما تحمله من نقاط القوة والضعف والمكتسبات المعينة على تحقيق الوجود بأعلى درجات الرفعة والتألق، إذ إن تلك الواقعة كشفت من خلال المواقف والاصطفافات والانحيازات كنه الشخصيات وما يسكن بين جوانبها من صفات أخلاقية راقية أو دنيئة، فما اتخذه كل واحد من الطرفين لم يكن وليد اللحظة ولا تفاعلًا آنيًا مع الحدث، وإنما هي إرادات متصارعة ونفوس تحمل بين جنباتها حقيقتها فكان فعل كل واحد كاشفًا عن حقيقة جمالية أو قبيحة لعلها تكون متوارية، ولكن سنة الابتلاء الإلهي تمر بنا وتصادفنا في كل منعطف من منعطفات الحياة لتبين وتميز بين الشخصيات وفق مبادئها وأفكارها.

فالحرب الطاحنة التي وقعت في الطف تعبر عما يحمله كل فرد وفريق من أهداف يعمل على تحقيقها، فأصحاب عمر بن سعد تنوعت الغايات المحركة لهم للمشاركة والمؤازرة على قتال السبط الشهيد (ع)، فهناك من حركته نوازع نفسه المتعلقة بحب الرئاسة ونيل تلك الأبهة المتعلقة بها والشعور بشيء من العظمة الكاذبة، فابن سعد -مثلًا- لم يكن الدافع له لتقدم الصفوف المال بل هو حب الجاه والرئاسة (حكم منطقة الري)، والتي من أجلها يفعل كل شيء ويخترق نظام القيم الدينية والإنسانية، وهذا ما رأيناه جليًا في تلك الجرائم الفظيعة المرتكبة في معركة الطف وما بعدها، بما لم يكن معروفًا ولا معهودًا بين المسلمين الوصول إلى هذا المستوى من الانحطاط الأخلاقي.

وهناك من كان الباعث له على مواجهة وقتال السبط الشهيد هو حب المال المزروع في قلبه مهما كانت المهمة المكلف بفعلها ما دامت ستملأ جيوبه بالمال. ومما يستشهد به لذلك قول سنان حينما أدخل رأس الحسين بن علي (ع) على عبيد الله بن زياد، وهو يقول:

املأ ركابي فضة وذهبًا * أنا قتلت الملك المحجبا
قتلت خير الناس أمًا وأبًا * وخيرهم إذ ينسبون نسبا

وهناك من كانت تحركه مشاعر الحقد والكراهية المستوطنة في مدافن قلوبهم السوداء، فهرولوا باتجاه ضغائنهم بعد أن أقفلوا مفاتيح عقولهم لإدراك الحقائق والمفاهيم، فهذا المنادي ينادي ويجيب الإمام الحسين (ع) عن الدافع الحقيقي المحرك لهم لقتاله وهو سيد شباب الجنة، (ثم توجه نحو القوم، وقال: يا ويلكم! علام تقاتلوني، على حق تركته، أم على سنة غيرتها، أم على شريعة بدلتها؟!
فقالوا: بل نقاتلك بغضًا منا لأبيك! وما فعل بأشياخنا يوم بدر وحنين!.. ).

والشبهات المضلة كانت كذلك حاضرة في اليوم الطف، وإلا فما معنى الراية التي ترفع مكتوبًا عليها (عجلوا في قتل الحسين حتى نصلي جماعة)، إذ يرون في طول قتال سبط رسول الله (ص) عائقًا ومؤخرًا لهم عن أداء صلاة الجماعة!!، فأي جهل وعمى في البصيرة وصل إليه البعض حتى يصدق مثل هذا الهراء والتزييف؟!

هذه مجمل النوازع والرذائل الفكرية والسلوكية التي حركت جيش عمر بن سعد لقتال أبي الأحرار، وعلينا التأمل فيها لنحدد موقعيتنا ومدى انسجامنا مع الفكر والسلوك الأخلاقي الذي كان عليه الحسين وأصحابه أو الطرف المقابل، فلئلا ننخدع ونعيش وهمًا وبعدًا عن الحقيقة لا بد لنا من التدقيق في مواصفات وأفعال كل طرف منهما ونعكس ذلك فنقارن بين أنفسنا وما نمتلكه من صفات إيجابية وسلبية، ومن ثم نرى ما نحن عليه من سلوكيات وتصرفات ومخالفات أخلاقية ونوازع نفسية كتأليه الذات والتكبر وحب الدنيا والأموال والزعامة ومدى تناسقها وانسجامها مع ما كان عليه جيش الأعداء، فأصحاب الحسين (ع) هم الصفوة الإيمانية التي امتازت بالإخلاص والقرب من الله تعالى وسمو النفس وطهارتها من الرذائل والنقائص النفسية والأخلاقية.

وتهذيب النفس وتزكيتها من أهم الأدوار والوظائف التي يعمل الإنسان جاهدًا على تحقيقها، وهي عملية مستمرة يراقب من خلالها المرء مواقفه وسلوكياته ويحاسب نفسه على ما يصدر منه من أخطاء ليصلحها، وأما ما يقوم به البعض من حياة الغفلة والانشغال بأموره الحياتية فلا يشعر بابتعاده عن القيم الدينية، حتى يتسلل إلى قلبه البغضاء والمشاعر السلبية تجاه الآخرين بسبب مواقف مختلفة، وكذلك التهاون في تطهير النفس من العيوب يؤدي به إلى المهالك ويجد نفسه في نهاية المطاف صاحب منافع خاصة لا يختلف فيها كثيرًا عمن عادوا الإمام الحسين لا لأجل جهلهم بمقامه، ولكنهم عبيد الدنيا والمفتونون بزخارفها حتى أخذهم نحو الخطايا والمخالفات الشرعية.



error: المحتوي محمي