استكمالا لما انتهينا منه في مقالنا السابق المتمثل في الرد على أصحاب الإشكال الثالث في جزءه الأول حول كيفية الإسراء، بطرح التساؤل التالي -هل ثبت الإسراء بالجسد والروح أم ثبت بالروح فقط؟ – والذي أثبتنا بالإجابة عليه بما لا يدع مجال للشك بأنّ حادثة الإسراء قد تمت بالجسد والروح معا، بينما نستعرض اليوم جزءه الثاني من الإشكال السابق للإجابة على التساؤل هل إسراء النبي (ص) باليقظة أم بالحلم؟
وللإجابة على هذا التساؤل لابد أن تكون الدعوى حول حادثة الإسراء برؤيا المنام لقوله تعالى (وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا) (الإسراء 60) حيث ندّعي بأنّ قضية الإسراء هي المقصودة في قوله تعالى (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً) ، ونستطرد بقولنا أنّ المناسب لغويًا لكلمة الرؤيا هي : رؤية الشيء في المنام.
ويمكن شرح الآية بحسب الرأي المدّعى كأنّ يقول: يا محمد إن الله عصمك من الناس فلن تُقْتـَل أو تُحْبَسْ حتى تُتمّ التبليغ، وإنّك يا محمد ستخبر النّاس (أي المؤمنين والكفار والمشركين) بمعجزة الإسراء من مكة إلى بيت المقدس، فهذا الإخبار فتنة وبلاء، فيثبت إيمان من آمن بإخلاص، وسيرتدّ من كان إيمانه قشريا، وأما الكفّار والمشركين فيزيدهم طغياناً على طغيانهم.
والآية محل البحث قد ذُكرت في نفس سورة الإسراء، لذا سيتركز بحثنا على المقصود من الرؤيا في الآية المباركة، فكلمة الرؤيا عند العرب تعنى الرؤيا في المنام، مثل قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ. قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ)، فهذه الرؤيا الواردة في الآية المباركة تختلف عن الرؤية التي تعبر بالعين المادية، أو قد تكون شاملة للرؤيتين. فلا يبعد أن يراد بقوله (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ)، يعنى إن سيرك في منامك من مكة إلى بيت المقدس حيث لم تفقد زوجتك جسمك في المنام، إنما هذه فتنة وبلاء للناس بإخبارك بصدق هذا السير. وخلاصة القول يمكن لنا أن ندّعي أمرين:
الأول ـ أن الرؤيا تختص بالرؤيا في المنام.
الثاني ـ أن الآية الشريفة تتكلم عن الإسراء.
ويمكننا أن نَرُدّ على هذين الادعاءين بإجابتين شافيتين بإذن الله:
الإجابة الأولى: أن الرؤيا لا تختص بالرؤيا في المنام فقط، بل تكون شاملة للرؤيتين، وإن كان من المتعارف عليه بأنّ الرؤيا في المنام أكثر استعمالًا، فإنه يجوز لغويًا استعمالها في العين المادية أيضاً، والشاهد على ذلك أمرين:
1ـ قال الزمخشري في الكشّاف: (الرؤيا بمعنى الرؤية، إلا أنها مختصة بما كان منها في المنام دون اليقظة، ولا جرم إن فُرِّقَ بين الرؤيا والرؤية بتاء التأنيث مكان ألف التأنيث للفرق بين ما يراه النائم وما يراه اليقظان، ونظير ذلك القربة والقربى) الكشاف للزمخشري (2/ 303) ط/ دار الفكر (1399 هـ).
2ـ صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} قال هي: رؤيا عين أُرِيها رسول الله – صلى الله عليه(وآله) وسلّم – ليلة أُسْريَ به إلى بيت المقدس.
ونحن نقول: بأنّ كتاب صحيح البخاري يعتمد عليه في اللغة، وإن كان لا يؤخذ بأحاديثه كليًا، التي لابدّ من فحصها كغيرها من كتب الأحاديث.
ولكنّ الأرجح في السياق هي الرؤيا في المنام، لكثرة استعمالها فقد طغى الاستعمال الأول(الرؤيا في المنام) على الاستعمال الثاني(الرؤية في اليقظة)، حتى صار الاستعمال الأول هو المتبادر بدون قرينة، وهذه الدعوى راجحة ومقبولة، ولكن الإشكال يقع في الاستنتاج الثاني والأهم.
الإجابة الثانية: أنّ هناك أربعة احتمالات لمعنى الآية المباركة، والدعوى قد ارتكزت على أنّ للآية معنى واحد وحصري وهو ما ذكر أعلاه، فإذا احتمل وجود معانٍ أخرى للرؤيا لا تقل في الأرجحية عن المعنى المعيّن حينها لن يكون للمعنى المذكور حُجّة، وهذه الاحتمالات هي:
1ـ إنّ هذه الرؤيا لا تعني رؤيا المنام، بل تعني المشاهدة الحقيقية الحيّة للعين، ويعتبرونها (أي الرؤيا) إشارة إلى قصّة الإسراء التي ورد ذكرها في بداية هذه السورة.
2ـ أن معنى رؤيا المنام حقيقة، وهي أن يبحر النبي (ص) بالحلم فقط إلى بيت المقدس، وهو حلم صادق.
3ـ إنّ المقصود بالرؤيا، هي الرؤيا التي رآها رسول الله (ص) في السنّة السّادسة من الهجرة المباركة (أي عام الحديبية) في المدينة، وبشرّ بها الناس أنّهم سينتصرون على قريش قريبا وسيدخلون المسجد الحرام آمنين، ومن المعلوم أنّ هذه الرؤيا لم تتحقق في تلك السنة، بل تحققت بعد سنتين أي في عام فتح مكّة، وهذا المقدار من التأخير جعل أصحاب الرسول (ص) يقعون في بوتقة الاختبار فآمن بعضهم وارتد البعض الآخر.
4ـ يرجح مجموعة من المفسّرين الشيعة والسنّة بأنهم نقلوا أنّ هذه الرؤيا إشارة للحادثة المعروفة والتي رأى فيها النبي (ص) في المنام أنّ عددًا من القرود تصعد منبره وتنزل منه (تنزو على منبره (ص))، وقد حزن (ص) كثيرا لهذا الأمر بحيث لم يُرَ ضاحكاً من بعدها إلا قليلا.
و لو تأملنا قليلاً في الاحتمالات أعلاه، سنخرج بملاحظاتٍ عديدة منها:
ـ الملاحظة على الاحتمال الأول: عندما نطبق قاعدة التبادر -التي سبق شرحها في المقال الثالث- والتي تقتضي رجحان الرؤيا في المنام، حيث لا توجد قرينة واضحة لإزاحة هذه القاعدة، فالاقرب والاوضح رفض الرأي القائل بأنّ الرؤية كانت بالعين.
ـ الملاحظة على الاحتمال الثاني: أننا ذكرنا مرارًا علاماتٍ وعبارات في الآية المباركة (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى…) توضّح أنّ النبي (ص) سرى بجسمه حقيقة ـ راجع المقال السابق https://alqhat.com/beta/?p=425266–، فلا يوجد رابطٌ بين الآية المباركة أعلاه والآية الشريفة (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً…).
ـ الملاحظة على الاحتمال الثالث إن حادثة دخول النبي (ص) إلى مكة ثابتة إلا أن الآية الشريفة {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} قد نزلت في مكة قبل أن يحدث التاريخ الهجري أي قبل دخوله المدينة، فهذه الملاحظة لا تجعلنا نتأمل فقط بل أن نمعن في البحث أكثر عن حادثة أخرى غير حادثة دخول مكة.
ـ لا يبعد أننا نرجح الاحتمال الرابع، وهي حادثة رؤيا المنام (أنّ عددًا من القرود تصعد منبره (ص))، لقرينة ذكر (الشجرة الملعونة)، إذا كان المقصود هم مجموعة معنيون محددون في ظلمهم الطافح، وهذا هو الأقرب، والقرينة الثانية ما ذكره كثير من المفسرين شيعة وسنة بروايات مستفيضة، ننقل لك ثلاثة منها:
– ذكر السيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (5 / 309 ) بخمس روايات، منها:.. رأى رسول الله (ص) بنى أمية على المنابر فساءه ذلك، فأوحى الله إليه إنما هي دنيا أعطوها فقرّت عينه، وهى قوله ( وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ). يعني بلاء للناس.
– وذكر الشيخ الطبرسي في تفسير مجمع البيان (ج ٦ / ص ٢٦٦): روى سعيد بن يسار أيضا، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام وأبي عبد الله عليه السلام وقالوا على هذا التأويل: إن الشجرة الملعونة في القرآن هي بنو أمية، أخبره الله سبحانه بتغلبهم على أنامه، وقتلهم ذريته.
– وقد ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في الامثل في تفسير كتاب الله المنزل (ج 9 / ص 41): نقل هذه الرّواية (الفخر الرازي) في التّفسير الكبير، و(القرطبي) في تفسيره الجامع و(الطبرسي) في مجمع البيان، وغيرهم، ويقول الفيض الكاشاني في تفسير الصافي، بأنّ هذه الرّواية من الرّوايات المعروفة في أوساط العامّة والخاصّة.
وخلاصة القول نصل لنتيجة مفادها عدم ارتباط الآية الشريفة للسابقة بحادثة الإسراء بتاتا، وبذلك يسقط الاعتماد عليها كبرهان للإجابة على التساؤل هل أن سفر الرسول (ص) إلى بيت المقدس كان حلما أو يقظة!!. وبها نختتم مقالنا لهذا اليوم.