عزيزي القارئ في الجزء السابق من البحث أسهبنا في الرد على الإشكالين التاليين :
– الأول :القائل بأن نبي الله يعقوب هو المقصود في الآية محل البحث .
– والثاني : القائلين باستحالة وقوع حادثة الإسراء من مثقفين وملحدين.
و سنكمل اليوم سوية الرد على الإشكال الثالث.
الإشكال الثالث: دار الحديث فيه حول كيفية الإسراء، فقد سلك مجموعة من المسلمين هذا المسلك بقولهم لا يوجد شك في إثبات وقوع حادثة الإسراء لكونها من القرآن الكريم والتي يؤمن بها جميع المسلمين، ولكن هناك تساؤلات عديدة تدور حولها يجب الوقوف عندها والإجابة عليها وهي :
-هل ثبت الإسراء بالجسد والروح أم ثبت بالروح فقط؟
– هل هو إخبار باليقظة أم بالحلم؟
فهم يجيبون على الأسئلة بقولهم: إن الإسراء حصل بالروح فقط أو بالحلم، مستدلين عليه بأمرين: الأول أننا متساهلين بتحقق الإسراء بالروح فقط أو بالحلم، لئلا تحصل بعض المشكلات من هنا وهناك، كما أن الثاني هو وجود بعض الروايات، كما ورد في العديد من الأحاديث والسير:
– (كسيرة ابن هشام) المسماة بـالسيرة النبوية قال: قال ابن إسحاق، حدثني بعض آل أبي بكر أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم كانت تقول: ما فُقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله أسرى بروحه.
– و رواية معاوية عن مسراه صلى الله عليه (وآله) وسلم. قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس: أن معاوية بن أبي سفيان، كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم، قال: كانت رؤيا من الله تعالى صادقة.
و يمكننا تفنيد هذا الإشكال والرد عليه من أربعة أوجه:
1ـ عندما نحلل آية الإسراء – بغض النظر عن الأحاديث – افترضنا بأنّ شخصا ما تردد بين إن كان الإسراء بالبدن والروح أم كان بالروح فقط، حتى وإن قلنا باليقظة وبالحلم، و لا توجد قرينة على أنه كان بالروح فقط، بعد كل ما قيل نجد أنّنا لا بد أن نرجع إلى قاعدة التبادر، وهي بمعنى التسابق والتسارع في اللفظ، وهي بالتحديد هي انسباق تصوّر المعنى من اللفظ بمجرّد اطلاق اللفظ بحيث يكون هذا المعنى هو المتصوّر الاول في الذهن دون بقية المعاني. وهو أمر واضح في هذه القاعدة المتعارفة عند العقلاء والمطبقة عندهم في حياتهم اليومية، فمثلا لو أخبر فلان أنه طار إلى القمر، وسكت، ولا توجد قرينة داخلية أو خارجية في كلامه، فجميع العقلاء سيتبادرون إلى الحقيقة الواقعية، من دون مجاز وكناية، حتى لو تردد هذا الشخص فإن عقله سيرجعه إلى الحقيقة، استنادا لقاعدة التبادر.
2ـ بل ندعي وجود قرائن متفاوتة في الوضوح والخفاء في كون أن الإسراء كان بالروح والجسد، وهي كالتالي:
– قوله (سُبْحَانَ) إن ابتداء الآية المباركة بالتسبيح يشير إلى رؤية شيء عجيب يمثل كرامة إلهية لا يقدر عليها البشر؛ وهذه الرؤية تؤكد بأنّ الجسد كان حاضرا، وقولهم أنّ الإسراء كان بالروح فقط يتقاطع مطلقا مع ما ابتدأنا به من شرح الآية سابقا في الإخبار عن الحادثة.
ـ وقوله (أسْرَى) يعني أنّ السير ابتدئ من الله، ولم يقل (سرى) النبي (ص)؛ من أجل الدلالة على أن شيئًا عجيبًا قد حدث لا يقدر النبي (ص) القيام به بمفرده.
ـ وقوله (عَبْدِهِ) والعبد لا تُطْلَق على الروح وحدها وإلا لقال (روح عبده) أو (فؤاد عبده)، كقوله تعالى (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ)[النحل:102]. وقوله (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ)[الفرقان:32].، وإطلاقه لـ(عبده) مجردا هو المناسب للروح والجسد معًا.
ـ وقوله (لَيْلاً) جاء لتحديد الزمن الذي تمت فيه عملية الإسراء، والزمن محاط بالمادة، ولو كان بالروح فقط لذكر أنها ترفرف روحه، وما احتاج أن يحدد الزمن الذي أُسْرِي به فيه.
– (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) وهذا هو المكان الذي بدأت منه الرحلة المادية، ولو كانت منامًا لكان الأوقع أن يكون في بيته الذي يرقد فيه وليس في المسجد الحرام ليلا.
3ـ على فرض عدم القرينة أننا نقول إن قدرة الله تساوي السير بالبدن والروح معاً، أو بالروح فقط، فالذي طرح هذه الشبهة إنما طرحها في قدرة الإنسان التي تتفاوت بين الشدة والضعف، ولكنّ الحقيقة أن قدرة الله لا تتفاوت في جميع خلقه، قال تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [العنكبوت: 19]، (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر: 67]. (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الخَلاقُ العَلِيمُ) [يّس: 81].
٤- كما بيّنا سالفا يتضح لك عزيزي القارئ بأن الأحاديث المذكورة والتي يستندون عليها ليس لها قيمة تذكر فقد سقطت عندما قيست بفقرة قرآنية فيها عبارات وقرائن تبين بما لا يد
ع مجالا للشك بأن الاسراء كان بالروح والجسد، حتى لو افترضنا أن الأحاديث التي يعتني بها العلماء كثيرة فالأفضل طرحها عن القيمة العلمية لأنها لم تصمد أمام فقرة قرآنية.
وبها نسدل الستار على مقالنا اليوم على أمل أن نزيحه في المقال القادم.