كل شيء عن القهوة.. «المقهى» و«الكوفي شوب» في الذهنية التقليدية والعصرية!

قبلًا، كانت المقاهي الشعبية من ملامح أحياء المدينة، وهي تعبر عن عراقة المدينة وتمسّك أهلها بعاداتهم وتقاليدهم الاجتماعية والموروثة، ومحطة استراحة ولقاء وتبادل الأحاديث والهموم وسماع الأخبار وتمضية بعض الوقت حول فنجان قهوة أو استكانة شاي. جيل الآباء والأجداد اعتادوا على المقاهي في أوقات الفراغ لأنه مكان يلجأ إليه أهالي البلدة أو الحي للاجتماع والتواصل الشفوي، ومكان للعزلة أيضًا، يعني أن تكون وحيدًا في مكان مزدحم، ويعني أن عيون الآخرين معطَّلة عندك، ويعني أن تفكر وتخطط. أيضًا المقهى مكان استضافة الآخرين أو قبول ضيافتهم. عشرات المقاهي يرتادها الراغبون في تزجية الفراغ وقتل الوقت، مع احتساء القهوة وممارسة إحدى ألعاب التسلية. لكن هناك مقاهٍ تقدِّم لزبائِنها صنوفًا وألوانًا من القهوة والشاي فقط، وتعرف المقاهي في القطيف أو يتداول اسمها بـ”القهوة”وكانت مزدهرة بمختلف صورها، أذكر في هذا المقام وما زال في ذاكرتي قهوة مشهورة عُرِفَتْ بـ”قهوة الغراب” عبق الماضي الممتد إلى الحاضر، فقد بقي اسمها حاضرًا قرابة قرن من الزمن، وما زالت إلى الآن تعمل بنفس الاسم، وقد شكلت حضورًا مميزًا، وشعبية مطلقة، وأصبحت وجهًا مضيئًا لذلك الموروث الشعبي الجميل، ولا زالت قهوة الغراب مكتظة بروَّادها الجدد، هم من الشباب والكبار الذين يغمرون المكان بالحوار والعلاقات والنقاش الساخن. وكنت أتذكر حين كنت شابًا أرى القهوجي الحاج حسن الغراب ينطلق بِدَلتهِ النحاسية، وبزيه الخليجي المميز، يتجول في سوق القطيف ليقهوي أصحاب الدكاكين، ممسكًا بيده اليسرى دلة القهوة، وليمسك بالأخرى فناجين يصب فيها القهوة، ويقدمها للزبون بأصول وآداب يحرص عليها، مقابل قروش معدودات يتقاضاها حسب كرم صاحب الدكان، فهو لا ينتظر من صاحب الدكان أن يعطيه الحساب، وقد يدس الفلوس في جيبه وهو متجه إلى الدكان المجاور، طوال أكثر من نصف قرن ظل العم حسن محتفظًا بالدلة والفناجين أمام أجيال مرت على هذا المجتمع، كان المقهى مقصدًا لمعظم الفئات العمرية، فنجد الشبان والكبار، ومختلف طبقات المجتمع الطبقة المثقفة أو المتعلمة، ومقابل ذلك يتواجد أصحاب الحرف أو المهن المخلتفة.

ظلت القهوة تقدم الشاهي الأحمر والقهوة ومع ذلك فإن روَّادها يقطعون مسافات طويلة من وسط البلد وأطرافها والقرى المحيطة بها، من أجل رشفات من فناجين القهوة واحتساء أكبر كمية ممكنة من استكانات الشاي بتلذذ.

اليوم تغير الحال وأصبحنا أمام مقاهي لها حكايات.. قبل أقل من ثلاثة عقود من الزمن “فقط” كان العائد من أميركا لزيارة أهله يحكي لهم عن أكل الأمريكان ومطاعمهم السريعة، ويحكي لهم عن محلات متخصصة للقهوة، يقدم فيها أصناف وأشكال وبنكهات مختلفة من القهوة، فتغيرت ثقافة المقهى التي تعودنا أن نراها في مجتمعنا، تبعًا لتغير أنماط الحياة، فرياح التغيير هبت في كل اتجاه، حتى وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم، التحول الكبير والملموس في الأنماط الحياتية والسلوكية والثراء الذي تعيشه الكثير من الأسر، جعلت من أفرادها من الشبان والمراهقين يهرعون نحو المقاهي الحديثة التي يطلق عليها اسم “الكوفي شوب” ذات الصبغة التسويقية، ويعتقد فيها الكثير بأنها المكان المتخصص بصنع القهوة، إذ تتكفل بها شركات محلية تستعين بالأساليب التأسيسية والإدارية والتشغيلية والمواد الأولية، إضافة إلى الخبراء الأجانب والعمالة المدربة لشركات أجنبية -الشركة الأم- والتي تحمل أسماء عالمية معروفة، ويشمل ذلك اختيار أفضل المواقع والتصميمات والإطلالات الرائعة، وبعضها قد يستوعب مساحة مستشفى، وتنتشر بكثرة في المراكز التجارية وفي الأسواق، وقد نراها على هيئة أكشاك وعربات في الشوراع والطرقات والمواقف والمحطات والواجهات البحرية والحدائق وأرصفة سير المشاة، عبر الشبابيك وكيفما تشاء، إذ يكفي أن تجلس في سيارتك حتى تتلقى كوبك الصباحي وفي كل الأوقات، نعم يتجه الكثير من الشباب من رواد تلك الأماكن بسبب مظهرها العصري وتوافرها بسهولة، وخدماتها السريعة، وما تقدمه من مشروبات وبعض المأكولات الخفيفة، كما أن الصورة الارستقراطية أو الذوق الرفيع في كيفية تقديم كوب القهوة، هي ثمرة عظيمة للتطور والتقدم البشري، وقد قيل إن اللجوء إليها كان لتقديم صورة راقية ونظيفة بخلاف المقاهي الشعبية بكراسيها الخشنة ودخان مرتاديها، هذه المقاهي الحديثة تشهد تكاثرًا بشكل غير مسبوق، وتنافسًا وإقبالًا منقطع النظير، تضم الآن جميع الفئات صغارًا وكبارًا وفي الغالب الشباب.

لكن ما السبب الفعلي الخفي وراء إقبال الشباب على المقاهي الحديثة أو الكوفي شوب؟ وما حقيقة هذه المقاهي وما يثار من سلبيات حولها؟ لوهلة يبدو الجمع بين كلمتي”المقهى” و”الكوفي شوب” متنافرًا ومتضادًا، ففي الذهنية التقليدية ثمة تعارض في نوع وطبيعة القهوة، وطريقة تحضيرها وبين الأصناف المصنعة من مواد كيميائية وصبغات خطرة ومحورة وراثيًا، ومن وجهة نظري وأنا من عشاق القهوة الأصيلة، ويزداد ولعي وعشقي لقهوة أجدادنا “القهوة المرة” أو “قهوة الأم” يومًا بعد يوم، هي القهوة الطبيعية التي يضاف إليها حب الهيل ليضفي عليها مسحة طفيفة من اللون الأخضر وشذى فواحًا، أقول: قد يكون ارتياد محلات “الكوفي شوب” من الشباب والمراهقين يشير إلى طغيان نوعية معينة من الرواد من ذوي الاهتمامات المشتركة على غيرهم، ولعل ذلك راجع للنمط الجديد من التفكير، فقد يكون مجرد موضة أو تقليد أو لتمضية الوقت وما شابه ذلك.

هؤلاء اعتادوا الذهاب يوميًا أو شبه يومي، حتى أضحت ظاهرة مجتمعية تثير الاستغراب والاستهجان، ثم ما لبثت تلك السلوكيات أن أخذت مع الأيام دورها في الصدارة لينشأ عليها من يغضب حين اعتبارها خروجًا عن القيم الاجتماعية، مثل هذه المقاهي أفرزت أنماطًا من السلوكيات لن يعفو عليها الزمن، وإنني أرى أنه يتعين علينا أن ندقق بين الجديد الذي خضع للتغيير والتبديل وبين الرديء الذي نستطيع أن نحلل نوع رداءته.

خلافًا للمقاهي التي نعرفها تتميز المقاهي العصرية بتقديم عشرات الأنواع من المشروبات الباردة والساخنة الجميلة الشكل اللذيذة الطعم، أصناف وأسماء لم نسمع عنها غزت بسرعة مفاجئة حياتنا اليومية، فالقهوة أصبحت “موكا” و”لاتيه” و”اسبريسو” يضاف إلى ذلك نوع الخدمة، والزخم الدعائي.

ومما لا شك فيه أن المقهى العصري “كمشروع تجاري” لا يخسر أبدًا، إنه المشروع المضمون، يتراءى للشركات المتخصصة أن الفرصة عظيمة لجني الأرباح الكبيرة لكون معظم مرتادي تلك الأماكن من الشباب، فيعمدون للاستخفاف بدرجة ذكائهم، وتجلى ذلك وبشكل واضح في المشروبات التي يقدمونها لهم، فهي أشباه قهوة بدلًا من القهوة، هي مشروبات خاوية مليئة بالمواد الكيميائية والحافظة والتي تضر بالكلى إضرارًا مباشرة، وبالطبع هذه الفئة العمرية تمثل طاقة شرائية لها وزنها خاصة لما تقدمه هذه الشركات من خدمات مميزة، ومحاولة الوصول مباشرة إلى أدمغة الشباب والمراهقين من خلال أفكارهم ورغباتهم، ومحاولة إرضاء أذواقهم، رغم أسعارها المرتفعة التي تتجاوز إلى حد بعيد قدرات الطبقة الوسطى، ناهيك عن محدودية مداخيل الشباب وجيوبهم أو استنزاف جيوب آبائهم، يضحكون عليهم بصف طويل من النكهات والألوان المزيفة مقابل مبالغ لا يستحقونها، هذه المضافات الاصطناعية مثيرة للجدل فهي دائمًا في قفص الاتهام، فهناك مضافات مضرة بالصحة، وبعضها محدودة الجرعات، فهي مقيدة بضوابط وتشريعات دولية، تلك المضافات والتي في أغلبها منكهات ومحليات ومثبتات ومواد ملونة اصطناعية، تضاف للمشروبات الساخنة والباردة على أنها عصائر مستخلصة من فاكهة طبيعية، وهو ما يدعيه مُشغل “الكوفي شوب” فمثلًا اللون الأحمر مصدره الفروالة، لكن الحقيقة تؤكد غير ذلك حيث إن اللون الأحمر ما هو إلا أصباغ اصطناعية، لو علمنا هذا وجهلنا خطورة تناول مثل هذه المشروبات المصنعة على الصحة لطالبنا بمعاقبة مثل هؤلاء البائعين، أو على أقل تقدير بعدم إضافة مثل هذه المضافات أو الفراولة الحمراء المزعومة، أو التصريح للزبون بطبيعتها ومصدرها قبل إضافتها، وبعيدًا عن الفروالة أو التوت الأحمر وغيره من الألوان نقول: إن سبب شغف الشباب واندفاعهم نحو هذه الأماكن هو ما تحمله من مظاهر الحضارة ما لم يحلم به أي جيل سبقه!! وقد يسأل سائل: كيف لنا أن نطلق النظرة الدونية لذكاء معظم أو بعض الشباب على هكذا توجه؟! ويكون الجواب بكل بساطة: حين ترى الشباب والشابات يملؤون قاعات المقاهي ويدفعون مبالغ في مأكولات ومشروبات لا تستحقها، عشرات الريالات تصرف في غير مكانها وبسرعة البرق، ومخاطر ومحاذير التي قد تنشأ من جراء تناول مثل تلك الأغذية والأشربة، هم لا يدرون حجم المعالجات التي تعرضت لها المواد الداخلة في إنتاجها، أمر عجيب وغير عقلاني أو منطقي فلا شيء غير اللون والطعم، وهذا على حساب قيمته الغذائية، ضريبة يدفعها الإنسان من صحته وحياته.

أعجب حقيقة لأولئك الأشخاص الذين يدفعون في كوب شبه قهوة ثمنًا مرتفعًا، وأصبح الوقوف الطويل أمام محال “الكوفي شوب” يوميًا أمرًا غير مستغرب.

يعود ابتعاد الناس عن المقاهي الشعبية لافتقارها لذلك التنوع واقتصارها فقط على مشروب الشاهي والقهوة. لكن ما أريد إيصاله من توصية وأرجو ألا يضيق بي عشاق ورواد المقاهي العصرية، رغم الخدمة الجيدة والشكل الجميل والطعم اللذيذ الذي تتميز به، ولكن الأمر بعيد كل البعد عن مفهوم التغذية السليمة، فالفرق شاسع بين قهوة الأمس وقهوة اليوم، وأستطيع القول أن قهوة الأمس كانت تقوم على أكتاف الأصالة والعراقة، وفضلًا عن تلك القيمة الغذائية والطبية، فهي تحضر بتحميص حبوب البن الخضراء تحميصًا خفيفًا، وطحنها في الهاون أو باستخدام مطحنة بن يدوية أو كهربائية، وغليها بعد ذلك لفترة وجيزة، ثم يضاف إليها حب الهيل المطحون، بينما قهوة اليوم ليست قهوة الآباء والأجداد، فقد شهدت نقلات نوعية كبيرة حولتها إلى مشروبات تصنف غذائيًا بأنها من الأغذية أو المشروبات غير المتزنة، فهي ديناميت غذائي في قمة الهرم.

وأخيرًا، هل نحن أصبحنا فجأة جيلًا شديد الشغف بالناحية الجمالية، نذوب رقة من فرط إحساسنا بحلاوة الغذاء فتغتال قيمته الغذائية لنجعل منها أغذية خاوية، أين هم صانعو القهوة العربية الأصيلة “قهوة الهيل” قهوة الأباء والأجداد التي عودونا على شربها وصارت لنا رمزًا لكرم الضيافة، القهوة المبهرة بكل ما تحتويه من كافيين وهيل ولا يشتكي شاربها من أرق أو قولون ولا يحزنون، بل ينام بعد ذلك قرير العين إلى الصباح، لقد تغَّير كل شيء، لكن هل تغير كل شيء إلى الأبد؟ هل هو طريق بلا رجعة؟ ما طرأ على القهوة في عصرنا الحالي من إضافات ومعالجات أخرجت لنا أصنافًا وأنواعًا غالية الثمن ورخيصة القدر، استقطبت اهتمام الشباب اللاهث وراء كل جديد حتى لو كان على حساب صحته، لقد نسينا في غمرة لهثنا خصوصيتنا وتراثنا الذي يزخر بالكثير من الإيجابيات بل وجرينا وراء أشياء يمكن أن تجلب لنا عديدًا من الأمراض والتي نراها تظهر بالفعل بيننا، بحق إنها من سلبيات الزمن المعاصر.


منصور الصلبوخ – أخصائي تغذية وملوثات.



error: المحتوي محمي