الأم مدرسة وطرد من الرعاية.. حَدَثٌ وَحَدِيْثٌ (26)

لّم تَعرِف الحياة المُمتدّة الكريمة- مُنذ نَشأَة البشرية الأُولَى- يومًا، عِطرًا أحلى، وأذوق، وأمتع مِن شائع عَبير رائحة الأم؛ ولا حَنانًا غَامرًا، يُضاهي، ويُماثل سَابق، وذَائع، أنقى، وألطف مِن رِقّة حُنوّها الضافي؛ ولا يدًا رَحيمةً مَبسوطةً، كُلّ البَسط، أنعم وأندى مِن شَفقة نُعُومة راحةِ كفّيها المُمتدتين المِعطاءين- لَيلًا ونَهارًا- لتربية وتنشئة، والسهر الذاتي المُتفاني على تام رَاحة، وأكمل سَعادة وَليدِها المُبجّل، وفَلذة كَبدها المُفضّل؛ المَغمُور حُبًا وصَبابة؛ والمُدلّل عِشقًا وشَغفًا؛ والمَمنُوح بهَبّةِ القيام، ونَفرةِ الوئام، والانتصاب المتأهّب على أَداء وسَداد جاري شؤونه، وسائر مُتطلباته، مِن ألِفها إلى يَائِها… إنَّها الأم الرؤوم، صَاحبة ورَاعية الفضل المُغدِق الأول، ومُنتهى الجُود، واليد الرحيمة الطولى، في إعداد وتقديم أصفَى مِزاج نَمير كأس المحبّة الأوفى؛ وإهداء واسداء أروَع رَسم أندَى بَسمات زفّة الأمل السعيدة؛ مَمزوجةً بأسخى نَسمات بَذرة سِرِّ الحياة الحَالِمة؛ ومُجللةً بأجملِ صِبغة نَفحاتِ زِينة الدنيا؛ ومَكسوةً حَالمة، بفائقِ مُتع صَيد أحلامِها الورديّة الجميلة، إنعامًا وتَكْرِمة!

ولَعَلّ قَائم عَطاء جِهاد الأم المُستمر، ودَائم وَفاء صَبابة حُبها الفيّاض العطِر هما صِلة إلهام فَوقيّة، وهِبة عاطفة فطرية؛ ومِنحة تكريم إلهية، قد قذفهما الله، جلت قدرته المُتعالية، في شِغَاف ومُهجة قلب الأُم الحَاني… وفي هذا الصدَد أتلمّس السنَد؛ وأتتبّع المدَد، في قِمّة صَبابة العلاقة الإنسانية الوثيقة؛ وأتفحّص ذُروة الصلة الحميمة “البينشخصيّة” المتينة؛ لأَجِدها- شَاخصةً مَاثلةً- في تسلسل حَبكة القصّة القرآنية، وفي مَوقف قصة النبي مَوسى بن عمران، عليه السلام، عندما التقطه آل فِرعون، واحتضه بيت عَدوه، فرعون مِصر… وقد امتنع الطفل الرضِيع حِينئذٍ عن الإتيان والإقبال على شُرب المَراضع مِن أثداء النساء الأخريات، اللائي استأجرهن فرعون؛ لسرٍ إلهي مَكنون، حتى لحظة تقصّي واستدلال أخته المُلهَمَة، عن مَكانِ وُجُود الطفل الناجي، المُلقى في جَوف تابوته المُسيّر في خِضم عُباب اليمّ؛ لِيعود- بإذن ربه- إلى فِطرة الإرضاع والارتواء المُعتاد، مِن صَدر أمّه الحنون؛ لتقرّ به عينُها، بعد أنْ رَبَط الله على قلبها وَعدًا صَريحًا؛ وبذلك يلتمّ شَملها بولدها الدمِث الودِيع؛ ويتمّ الشفاء والبُرء- بدفئ نبع حَنانها الضافي- لسَائر جِراح فؤادها، بعد فِراقٍ مُوجع، وشَتاتٍ مُؤلم، لقِدّة حُشَاشَة قلبها… والتكفّل بحِفظه سَالمًا مُعافًا، بأسمى قُدرة العنايه، وفائق حَوْل الرعاية الإلهيتين المدبّرتين الحافظتين!… ( فَرَجَعنَاكَ إِلَى أْمِّكّ كَيْ تَقَرَّ عَيًنُها… )

وتَظَلّ مَنزِلة الوالدين الكَريمين ومَعزّتهما مَاثِلتين سَاكِنتين في قُلوب الأبناء البررة، طِوال العُمر؛ وفي جَميع مَسارات العقل المُتيقّظة النشطة، وفي دَواخل الذاكرة الحافظة…(واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِن الرَّحمَةِ وَقُل رَّبِّ ارحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)… وتَتبوأْ الأم العطوف أعلى مَرتبةٍ؛ وتتقلّد أَجلّ قدرٍ؛ لما عَانته، وكَابدته مِن إعياءٍ، وتعبٍ، ونصبٍ وسهرٍ… وقد قال في أسمى حَقّهما، وأعظم كَرامتها، نبينا الحليم الكريم، عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغُر الميامين، أفضل الصلاة، وأَتم التسليم: (الجنة تحت أقدام الأُمّهات)… ولا أكاد أنسى نَظم شاعر النيل، حافظ إبراهيم، عندما نَظم في حَقّ الأم وأجاد:
الأَمُ مَدْرَسَةٌ إِذَا أَعْدَدْتَهَا… أَعْدَدْت شَعْبًا طَيِّبَ الأَعْرَاقِ الأُمُّ رَوْضٌ إِنْ تَعَهَّدَهُ الحَيَا… بالرِّيِّ أَوْرَقَ أَيَّمّا إِيْرَاقِ الأُمُّ أُسْتَاذُ الأَسَاتِذَةِ الأُلَى… شَغَلْتْ مَآثِرُهُمْ مَدَى الآفَاقِ

وفي وَجَاهةَ الأُم، وعُلوِّ شأنِها، أتذكر مَرّةً عندما كُنت أَدْرس كُورسًا تربويًا في كُليّة الجبيل الصناعية، عند أُستاذ مِصري، تخرج في اليابان… وفي مَعرض الحديث عن المجتمع الياباني، يَذكر ويُبجّل فَضلِ مَقامِ الأم، في عُمق ثَقافة وعَراقة الشعب الياباني، أَنَّ وِزارة التربية والتعليم هناك، تُوزع كتابًا تربويًا، تُعِدُّه خاصًا للأم، كي يُساعدها ويساندها على مُتابعة منهج دُروس أبنائها في المنزل، في سَنوات التعليم النظامي، ويُذكر أنَّ “كتاب الأم” يُسلّم مَع بداية كلّ سنةٍ دراسيةٍ جديدةٍ مرّة، مَع مَجموعة الكتب الدراسية!… ولا أَنسى كذلك المَوقف المِقدام لأمٍ أمريكيةٍ حَانية، وقد جَمعني مع ابنها “توماس” قُبيل مُنتصف الثمانينيات من القرن الميلادي المنصرم (كورس) دراسي مُتقدّم، في تخصص عِلم الاتصال والخطابة الجماهيرية، بالسنة الثالثة الجامعية، عُنوانه “الاقناع في وسائل الاتصال” ويُذكر أَنَّ والد زَميلي الطالب المذكور، كان يشغل رئيس جامعة نورث تكساس الحكومية الأمريكية، آنذاك… وفيما يَخص حالة توماس الصحيّة، فإنه يُعاني مِن مرض يُعرف بعُسر القراءة “ديسلكسيا” ومُسببه تلف وَظيفي في بعض خَلايا الدماغ، أفقدته القدرة على التوافق العصبي العضلي، وعَدم مَقدرته الأدبيّة السويّة على كِتابة ونَضم ورقة الواجب الأُسبوعي؛ مَمَّا دّعا أمُّه المخلصة الوفيّة إلى التدخل العملي الجاد بمساعدته، والوقوف الأكاديمي بجانبه، في إعداد وكتابة ورقة الواجب التحريري الأسبوعي، في غَمرة مُجتمع، تَسُود فية غَلبة الاستقلالية الفردية…!

ومِن حُسن الطالع، أَنَّ للأُمِّ أندَى بَصمات واضحة، في تعزيز، وتَفوّق، ونُبوغ ثُلّة مِن العلماء المُفكرين المُبتكرين، الذين خلّدهم التاريخ… وسأذكر- على التوالي اثنين مِن عَمالقة، العلماء العظام، الذين لهم بَصمات لا تُنسى، في رَفاهية وثَقافة البشرية، جَمعاء. أولهما العالم الأمريكي المخترع، توماس أديسون، الذي أضاء العالم أجمع، باختراع مِصباحه الكهربائي… حَيث كان في طفولته ألمعي، مُتوقّد الذكاء؛ وقد طُرِد مِن المدرسة الابتدائية، بسبب فُضوله السائد، وكَثرة أسئلته المُتكررة… عِندئذٍ احتضنته أُمّه الرؤوم، وقد كانت مُعلمة قديرة؛ لتتكفّل بتعليمة، مِن الألف للياء، وكان لوالده اليد الطولى في امدادِه بالكتب، وتنمية حُب القراءة لديه، مُنذ نُعومة أضفاره!… أمَّا ثاني العمالقة، فهو رائد مدرسة التحليل النفسي، الطبيب والعالم النمساوي، سَيجموند فُروِيد، فقد كان أحد إخوته السبعة، وأكثرهم ذكاءً وألمعيةً… مَمّا جَعل أمّه تعطيه الاهتمام الأوفر، في مُتابعه دروسه، إلى أنْ شبّ، ونبغ نبوغًا مُشرّفًا!

وفي مَسلك جّادّة هذا المنهاج الحكيم القويم، تضطلع بشَجاعة ونَباهة “أيقونة” الأم الحانية الشفيقة الرؤوفة، بما آتاها ربّها، جلّت قدرته، مِن أتم حِلمٍ، وأكمل رِعايةٍ، وأنفذ عِنايةٍ، تغبِطها بها صُفوف الأنجال حُبُورا، وتشِيد بها مَواكب الأحياء بشَاشَة، مِن سَائر الجنس البشري، قاطبة… فمقام الأم الفاضلة، يَستحق أن يدِير مَدرسة الحياة المُثلى، بكفاءة وجدارة، وينِير دُروب الأحياء النجباء، بفَائق حِكمة، ورَائق رِعاية، يحظَى في واسع ظِلّها الظليل، ويندَى بها مُؤنِس أنفاسِ حَياتِها؛ ورِدء وَهَج نعيم سَعادتِها، صفّ أنجالها البررة، طُولًا وعَرضًا… (ومَنْ يّتّّقِ اللهَ يَجْعَلُ لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا).



error: المحتوي محمي