بأدب جمّ و بابتسامة تعلو محياه و بصوت هادئ النبرة ، يصافح الجميع بمحبة بالغة
( كبيرًا كان أم صغيرًا إمرأة كانت أم رجلً ) ، و ما أن تقف بجواره يهمس لك بفيض من روحه التواقة لكل ماهو جميل ، و إذا طال بك المقام و استأنست معه حضورًا ، سيحلق بك في دنيا الفن و الشعر و القصة و الرواية والموسيقى، و سيخفف عنك بين فن وفن بشدو من الشجن العراقي الأصيل، هو أصيل في طباعه دون تكلف و لا تصنع ، و لا يفرض رأيه جدالًا ، و يحترم رأي الأخر ، لكنه يصارحك بلطف بما يؤمن به دون مؤاربة ، يسدد النقد في مواضعه دون وصاية أو فرض على أحد ، ملمًا بالمشهد الثقافي خليجيًا و عربيًا، بل رافدًا للملتقيات الأدبية المحلية ومشرفًا عليها ، حضوره اللافت في المواسم الثقافية جعله يحظى بعلاقات متميزة مع قامات عربية من المحيط إلى الخليج ، يمتلك خبرة صحفية لأكثر من عقدين ، حاور خلالها العديد من الأدباء والروائيين و الشعراء ، و التشكيلين والتشكيليات .
طرح مؤخرًا باكورة إنتاجاته في مجال الفن التشكيلي ضمن كتاب أنيق تحت عنوان ..
(بكثير من الضوء .. حورات في التشكيل ) ، الصادر عن ( مسعى للنشر والتوزيع ) ممهورًا باسمه حافيًا من دون ألقاب إضافية و لا حتى سيرة ذاتية عن نفسه .
إنه الرائع الشاعر و القاص الأستاذ
( حسين الجفال ) الذي أغواه الفن منذ نعومة أظفاره بجميع مجالاته ، وإيمانًا منه بقيمة الفن التشكيلي للمثقف الشمولي يتبع ذائقته الفنية حضورًا للمعارض الجماعية و الشخصية ، خصوصًا المحلية ، يحرص دائمًا أن يكون من أول الحاضرين ، و تراه لا يحضر لمجرد تلبية الدعوة فحسب ، إنما يتحسس مواطن الجمال و الإبداع ، ففي ردهات كل معرض يقف مطولًا عند العمل الذي يسثيره و جدانيًا ، سرعان مايكتب عنه قراءة مكثفة وموجزة و دالة و يجعلك تنظر للعمل من خلاله برؤية أخرى .
و يستثمر حضوره أيضًا بعقد حوارات مع أهل التشكيل بمختلف أعمارهم وأجناسهم و تنوع خبراتهم .
لقد توج تلك المعاشرة الفنية الطويلة في كتابه الصادر حديثًا حيث سبر خبايا نفسيات 28 فنانة عربية ، أغلبهن سعوديات و المساحة الأكبر للفنانات القطيفيات .
ارتحل الجفال معهن بحورات غير تقليدية ، استنطقهن بأسئلة محفزة و أخرى استشفها من منجزهن الفني و الأدبي و أحالها إليهن ثانية بعد أن أضفى عليها من حسه المعرفي ، ليقدح زناد فكرهن ، طمعًا لتشريح ماهية المنجز و فهم جميع أبعاده
( تقنية و موضوعًا و مضمونًا ) لاستقطاب عين المتلقي عن قرب لمشهدهن البصري ، و تارة يستثير ذائقتهن بأسئلة باهرة يستجلبها انتقاءً من ألسنة أهل الفكر و الفن و القلم، يصيغها بفطنة و نباهة ليحرضهن قصدًا ليأتين بأفضل إجابة . و استطاع أن يقتنص ما يدور في عقولهن من فهم للفن و همومه و قضاياه و مدى جدواه و انعكاساته في الحياة ، كاشفًا مختبرهن التشكيلي و طقوسهن البحثية بين الوعي و اللاوعي و بين التأثير و التأثر و بين الواقع و الحلم و مخزون الذكريات ، بعضهن تماهين مع نسق الأسئلة و أخريات أدركنها بطرح مغاير ، فأتت الحورات كطيف قوس قزح بألوانه السبعة ، كل لون امتزجت دلالته بذات الفنانة بين المتوهج والغامض و الصارخ و الهادئ والحالم، و النابض ، و الساطع ، و كأن كل لون يشبه في رمزيته إجاباتهن المتعددة ، أو بمراوحة بين لونين منسجمين و أكثر، أو بمزاوجة بين المتباينات ، وآخريات استحوذن القوس وعيًا مطردًا نزولًا و صعودًا مستجمعين بلمح البصر أصله الأبيض وبكثير من ضوئه الساحر ناثرات فكرهن من قبسه الأخّاذ طيفًا جماليًا ذو متعة و دلالة .
إن بعض ماجاء به الكتاب، ليس كلامًا صرفًا عن الفن التشكيلي وإنما مساحات صدق لما يختلج في صدورهن من ألم وحزن وأنين، مرآته فنهن متجسدًا بألوان وخطوط ليبقى شاهدًا على مر الزمن ، وحسب قول إحداهن (المبدع لاتحركه المباهج ، بقدر ماتحركه الآلآم والأوجاع والأحزان ) ! بكل تأكيد ويقينًا الفن يحمل النقيضين ، ومن أجله نسمع صدى صرخة في سبيل التقاط فكرة وعلى لسان إحداهن (أريد أصرخ كي يبزغ النور ) ، انفعالات حادة لاتسمع ولاترى، ترسم بقسوة أحوالهن وتستنزف طاقاتهن في سبيل التماع إشارة أو اصطياد (تيمة) ، أو بزوغ مشروع ما، وماأن يلوح شيئًا تمسك به كقبضة من نور وسط أجج المعاناة، سرعان مايتقلب المشهد دهشة بين عين عقلهن ونبض قلبهن و إلحاح أيديهن استغراقا مستميتًا وبكثير من الجهد المستنزف ، بآمال مرتقبة لعرض يوازي ماقمنا به من مكابدات ، وانعكاسًا لما دار في خلدهن من مضامين وأفكار نيرة .
حوارتهن ليست مجرد كلمات عابرة مرضاة للاستعراض أو خلاصًا من ربقة السؤال، إنما رصدًا لحضورهن الواثق وتجمعهن الفعال والمؤثر في الحراك التشكيلي بقوة الطرح وقيمة العرض .
تستوقفنا جمل جريئة نعيد قراءتها ثانية وثالثة وربما نحتكم جرائها ونختصم ،
وبتأكيدات منهن هذا حقنا المشروع في التعبير عن ذواتنا بعيدًا عن المخاتلة، كل ماتلفظن به من قول هو حرقة قلب سعيًا منهن لعالم أجمل وأكمل وأعدل يسوده الأمن والسلام ، ضميرهن حي ليس بمعزول عن العالم ، إنهن ينشدن المساواة بين الناس وينادين بالحرية دستور حياة ، هذا سعيهن كلامًا ولونًا ، وتبرز في حوارتهن معاني المحبة بكل تجلياتها السامية، متفقات تطلعا على إشاعة الحب عبر الفن ، لأن رسائله تصل وتقرأ للجميع دون حواجز اللغات ، ولو ساد حسب قولهن لانتفت من حياتنا كل المآسي والمصائب والحروب .
ومن بين صفحات الكتاب أسطر تتناثر بأعذب الجمل وأرق الكلمات، كأنها أساور حلي من فضة وذهب ، تغري عين المتلقي قراءة مشتهاة لبريق الألوان وشدة لمعان الأحرف ، نعم لقد افضين وأفضن من نبضات مشاعرهن الحساسة المرهفة كرش المطر بتنوع ساعات نزوله ، وكأن الكتاب بمجمله أخصب زرعًا وأينع وورودًا وأزهارًا وثمارًا ، يسر الناظرين والقارئين ، وبينهن أسئلة ضوء جذرت دفتي الكتاب نموًا باسقًا وظلًا ، لقد عبرن بشجاعة من أول صفحة لآخر صفحة عن كينونتهن قولًا وريشة ولونًا، ونرى في أعمالهن إنحياز لبني جنسهن ،حيث ترى أحدى الفنانات (الأنثى أصدق تعبيرًا عن نفسها ) ،حقًا لاتعرف المرأة إلا المرأة ، هي مرآتها منذ الخليقة ،
تتدفق من بين السطور الأمومة بكل معانيها وبعواطف لامتناهيه ، وأحاسيس طاغية للأرض باتساعها ،
و بعنفوان المشاعر للوطن بلا حد ، بالقدر نفسه قدمنا مفارقات الحياة وتناقضات البشر وعرجن لكل مايشاغل النفس من قلق وخوف وهواجس وضياع وارتياع والتياع وحب وكره وانهزام وتحدي وكبرياء واعتزاز وردح بين الحلم والكون والوجود وارتحالات بين الحياة والموت .
ثمة أجوبة متشضية لا يخلو بعضها من نرجسية الأنا التي تتغافل قصدًا وعمدًا عن من أخذ بيدها نحو عالم الفن وكما قيل (لاشيء يأتي من لاشيء ) ، قلة قليلة ذكرت ذلك ! .
ثمة سطور تستفزك بإقرار من أحداهن بأنها ( عنيدة ومتمردة وشرسة) ! كيف وهي المخلوق الرقيق ؟ ، لأباس لتلكم الإجابة كلنا مخلوقين من نفس واحدة، تلك دفقات من خلجات مستترة إنما تنبئ عن هواجس القلق الإبداعي بين شخصيتين ذات الأنثى وذات الفنان المسكون بداخلها، فكل عمل مميز لم يأت صدفة من فراغ، صراع الذاتين بين الممكن واللاممكن وماهو متاح للعين واليد، في ظل اوضاعهن المبعثرة من التزامات لا حصر لها ، يدفعن أثمان باهضة (جسدية ونفسية) ترمي بهن في التيه ليأتي أو لا يأتي ما تم تصوره بخيبة أو نجاح ،
وإن أتى بعين رضاهن فكأنه توأم الروح ، وقد عبرت أحدهن (أنا والفن نفس واحدة ومسيرة واحدة) .
ومن بين المقابلات يتقاطع الحوار الفني مع عدة حورات خصوصًا مع الفنانات الشاعرات والقاصات والكاتبات، اللآتي أغرقونا في بحر فنونهن متعة ومسرة وثقافة مستنيرة .
ويلفحك من بين الأسطر هجير المكاشفات الحادة ، لاحتجاجات لن تنقض ضد التسلط الذكوري لكل حركاتهن وسكناتهن، فالرجل في نظرهن هو المتهم الأول والأخير عن تهميشهن ! وكل عثرة في طريقهن وراءها مجتمع الرجال ! حتى قال أحدهم ذات مرة على هامش معرض ضم نخبة من الفنانات (كفاكم ندبًا ، ففي كل معرض تبثون أنينا وشكوى متى تنتهي هذه المظلومية من أعمالكن الفنية )؟ إنه ياسيدي ميراث ثقيل لن ينتهي بين ليلة وضحاها ! والمثير جدلًا بأن أصابع اتهامهن ممتدة بقسوة إلى عنق الرجل الذي وقف عائقًا في وجههن للاقتراب من الفن تعلمًا وممارسًة وعروضًا وانتشارًا ليس في بلادنا العربية فحسب كما يزعمن، ولكن على مستوى العالم ، إحداهن قالت في إحدى صفحات الكتاب (لو كنت أستطيع اختيار زمني، لاخترت زمن الأقلية بالفن لأثبت ظهوري كإمرأة في زمن لم يصلنا منه إلا أسماء فنانين ذكورا ) ؟! هذا الأمر الملتبس بكل أسف أكدته جملة وتفصيلا مقدمة الكتاب الدكتورة .(ميسا الخواجا) التي اعتبرت بأن الفن النسوي تأخر ظهوره كثيرًا بسبب تهميش الفنانين والمؤرخين على حد سوا ! (…الفنانين الرجال أبقوا نظام الاستديو حكرا عليهم ومنعت النساء من دخوله…) مع احترامنا البالغ للدكتورة وتقديرًا لكل ما جاءت به في كلمتها الوافية والضافية بكل المعاني الجميلة، لكنها لم تصب عين الحقيقة في هذه النقطة بالذات والتي ربطت حركة الفن التشكيلي النسوي العالمي بالنظرية النسوية في القرن المنصرم ،موضحة حسب كلامها (برزت في العصر الحديث أسماء تشكيليات غربيات وضعن لهن موطئ قدم في الفن العالمي ) ، الواقع يقول عكس ذلك تمامًا فالمطلع على تاريخ الفن بتفاصيله الدقيقة وأسمائه العديدة ، والواقف بين ردهات متاحف الفن وجها لوجه ، سيكتشف فنانات مبدعات لا حصر لعددهن منذ القرن السادس عشر ،مرورًا بجميع الحركات الفنية ومدارس الفن الحديث وصولًا إلى مابعد الحداثة. ومع هذا التوضيح الضروري و إلهام لاينتقص بتاتًا من كلمة الدكتورة الرائعة والجديرة حقًا بمحتوى الكتاب .
الذي استطاع مؤلفه بكثير من ضوء أسئلته النوعية والمثقفة، في الكشف عن مخزون الفنانات الإبداعي، المحمل بطائفة فكرية وفلسفية وحياتية ورؤى جمالية .
حوارات راقية بكل ماللكلمة من معنى، تضمنها الكتاب الفريد من نوعه على الساحة التشكيلية السعودية ، وهو إبراز لقيمة ومكانة المرأة الفنانة في بلادنا وأيضًا كل ماجاء فيه هو بمثابة رد صريح لبعض الاتهامات الموجهة للكثير من التشكيليات وخصوصًا لفناناتنا (أنتن مجرد رسامات لا تدركن ماتفعلن وخاويات من أي ثقافة ) ! ، مخطئ ألف مرة من قال هذا، ومن ظن ذلك عليه بقراءة الكتاب جيدًا فهو كتاب جدير بأن يقتنى ، وسيكتشف كل مشكك مدى جدوى فنهن المتنوع وقيمة انتاجهن الثري و بأنهن قائدات مبدعات في فكرهن التنويري .
همسة تشكيلية :
هناك من يحاول أن يطفئ مصابيح في الدروب ربما من حيث لايدري ؟
الأستاذ (حسين الجفال) عبر كتابه القيم (بكثير من الضوء)
أشعل بجهده الفردي مصابيح وضاء في المشهد التشكيلي النسوي العربي …
3/9/2017