الإسراء حقيقة أم خيال؟؟.. الجزء (الثاني)

تساؤلات حول الآية:

استكمالا لما بدأنا به بحثنا في الجزء الأول من عرض مقدمة حول لفظ الإسراء و وقفات حول الآية الأولى من سورة الإسراء سنقوم اليوم بعرض مجموعة من الإشكالات والتساؤلات التي أثيرت حــــول مـا ورد في الآية الكريمة السالفة الذكر ، من قبل عـلـماء أو مثقفين تباروا للكتابة في هذا الموضوع، فبعضهم قد أفرط في الطرح بينما فرّط البعض الآخر في ذلك ، و لتوضيح هذا الأمر سنقوم بعرض خمسة إشكالات و الإجابة عليها بإذن الله:
الاشكال الأول:
ذكر (شانت أنترانيك) في كتابه (الإسراء والمعراج حقيقة أم خرافة) ـ والكاتب مسيحي الديانة عراقي الأصل ـ ما يلي: لم تحدّد الآية الكريمة الشخص الذي حصل له الإسراء، و بالتالي لم تذكر النبي محمدًا (ص) بالاسم، وإنما عبّرت بقوله تعالى: «بعبده»، وهذا التعبير ينطبق على النبي (ص) وقد ينطبق على شخص آخر من الأنبياء، بل حتى غير الأنبياء، ويرجح ذلك وجود قرائن بأن المُسرَى به هو النبي يعقوب (ع)، لأن سياق الآية الشريفة وما بعدها من الآيات منسجم مع نبي الله يعقوب، وهذه الآيات هي (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً * ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً* وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً …)، وبني يعقوب هم بني إسرائيل، لأن اسم إسرائيل هو النبي يعقوب (ع) بن إسحاق (ع) بن إبراهيم (ع).
ومن المعلوم إن لفظ إسرائيل مركبٌ من مقطعين “إسرا” وهي عبد و”ئيل” وهي الله، فيكون معنى إسرائيل (عبد الله) وهو الاسم الذي اختاره الله تعالى للنبي يعقوب (ع)، وسماه بأنّه عبده (عز وجل) واشتهر بهذا الاسم، ويمكن مراجعة كتاب (جامعة المدينة العالمية، الأديان والمذاهب) صفحة 102.
يمكننا الإجابة على هذه الإشكالية بأربع نقاط هي :
أولاً: أن القرآن لم يطلق لفظ (عبده) اطلاقاً مبهمًا أبدا، بل كان المقصود في كل مرة يرد فيها هذا اللفظ هو النبي محمد (ص) فقط ، وقد اتضح هذا الأمر في موارد عديدة لم يتم ذكر اسم النبي محمد (ص) فيها .فجعل هذا قــريـنـة على أنه هو المقصود دائما ، كـــقــولـه: ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾، وقوله: ﴿الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ﴾، وقـــــال: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾، ﴿وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾، وغيرها من الآيات. وهذا من الاستعمال القرآني المتكرّر، ويستثنى من هـــذه القاعدة عندما يـذكـــر اسم البدل ويعيّن المقصود، كقوله تعالى:﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ﴾،وكذلك قوله:﴿ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا﴾،﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ﴾ . وهنا نستنتج بـأن عدم ذكر البدل هو تعيين على أنه النبي محمد (ص) بعينه.
ثانيًا: ذكر مؤلّف الكتاب أن الآيات اللاحقة بعد الآية الأولى مجموعة تتحدّث عن بني إسرائيل، أي بني يعقوب، الأمر الذي يدعو إلى القول بأن سياق الآية الأولى هو عين السياق الدالّ على أن نبي الله يعقوب هو المقصود. ويمكننا الـــرد على هذه المقولة : بأن سياق الآيات المذكورة تتحدّث عن أجواء بني إسرائيل ، ولــم تتحدّث عــــــن إســــرائيل نفسه ، وهـــو النبي يعقوب ، فلو ذكر في شيء يكون مبهما تماماً وغير معروف، مع أنه لو كـان المقصود يعــقـــوب لقال (بــعــبـــده يعــقــوب) ، وأحـــــــلّ المشكلة، فعدم ذكر الاسم هو ارتكاز ذهني قرآني مكرر بآيات متعددة تؤكد بـأن المقصود هو النبي محمد (ص).
ثالثًا: مما لم يعهد أن يعقوب ذهب إلى مكة، وما يذكره المؤرخون من سيرته أنه استقرّ في “حيران” في شمال بلاد الشّام، وتزوّج فيها ، و وُلدَ له اثنا عشر ولداً، وقضى نحو أربعة وعشرين عاما في مصر، ثم توجّه بعدها إلى فلسطين ومات هناك ، فلم يذكر المؤرخون أن يعقوب استقرّ في مكة أبداً . انظر تاريخ الطبري 1 / ٣٣٠، تاريخ اليعقوبي ١ / ٣٠ ، وغيرهما الكثير في كتب التاريخ.

رابعًا: من الطبيعي أن يستقر يعقوب في منطقة مؤهّلة مثل بيت المقدس، و أن لا يستقر في مكة لكونها غير مؤهّلة في ذلك الزمان، و يفترض أن الله كشف ليعقوب آياته في المسجد الحرام، لأنه سفر بعيد جدًا يوصل إليه بشقّ الأنفس ومن المعلوم أن مكة بلد مقدس، لا العكس بأن يسافر إلى المسجد الأقصى ويكشف له الآيات، فالآية الشريفة معاكسة لواقع النبي يعقوب (ع).

و بالتالي نستنتج بأن نبي الله يعقوب ليس هو المقصود.

الاشكال الثاني:
يذهب إلى هذا التساؤل أو الإشكال مجموعة من الملحدين المعاصرين، الذين يدّعون استحالة الإسراء بالنبي (ص) من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بهذه السرعة الهائلة ذهاباً وإياباً، لأنها خرق للقانون الكوني.

ونحن سنجيب على إشكالهم بلفت انتباههم إلى أنّه لا بد من التفريق بين الاستحالة العقلية والاستحالة العرفية، وهذا ما سنقوم بتوضيحه في الأسطر القادمة :

– المستحيل العقلي: هو الأمر الذي يحكم العقل بعدم إمكان وقوعه وتحقّقه أبدًا، من قبيل: ما يشتمل فرضه على التناقض، كأن يكون الشيء الواحد موجودًا ومعدوماً في وقت ومكان واحد، وكذلك أيضا وجود المعلول من دون علّته الخاصة في الواقع الخارجي. وهذا القسم لا يقع عقلًا، فيصح أن ندّعي استحالة الخرق للقانون الكوني.

-المستحيل العرفي: في الواقع الخارجي اعتدنا على تحقّق كلّ شيء من خلال علّة أو علل معيّنة، فإذا سُئلنا: هل يمكن تحقّق هذا الشيء من دون وجود علّته المتعارفة؟ فإنّنا سنقول: هذا الأمر مستحيل، ولكن قد يكون لتحقّق هذا الشيء علّة أخرى نجهلها، فإذا أدّت العلّة إلى وقوع ذلك الشيء فإنّنا نتصوّر وقوع المستحيل.

وتسمية هذا “بالمستحيل” من باب التسامح، إذ هو من المستحيل الذي يحكم العرف والعادة باستحالة تحقّقه، ولكي تتضح الفكرة أكثر سنستعرض المثال التالي: لو سُئل أحد الأشخاص قبل اختراع الهاتف: هل تستطيع أن تتكلّم فيسمع صوتك من يبعد عنك آلاف الكيلومترات. فإنّه سيجيب: هذا مستحيل. وهذا المستحيل هو من قبيل المستحيل العادي والعرفي، وليس من قبيل المستحيل العقلي.

ويحكم الإنسان باستحالة الشيء عادةً لعدم علمه بالأسباب، فإذا عرفها وأصبح عنده إلمام بجهاز الهاتف، فإنّه سيدرك إمكانية حدوثه، وكذلك المعاجز كلها من باب اختراق المستحيل العادي، وهي ظواهر لا توجد عن طريق العلل العادية، وإنّما توجد عن طريق العلل غير العادية الخارجة عن نطاق علمنا. (لمزيد من التوسّع، انظر: معارف القرآن، الشيخ محمّد تقي المصباح اليزدي، ص 202 ـ 203).

وانطلاقًا ممّا أشرنا إليه، يمكن أن تكون رحلة الإسراء ممكنة عقلاً، والاستحالة الواردة حولها إنما هي استحالة عرفية لا عقلية، ويمكن للإنسان في المستقبل أن يخترع وسائل نقل أسرع من الطائرات يمكن معها الانتقال من مكة إلى بيت المقدس في دقائق، ولذلك يمكن تصوير ما حدث في رحلة الإسراء أنه كان بتدخّل إلهي عن طريق وسيلة نقل يمكنها الانتقال بسرعة عالية جدًّا، تمكّن نبينا محمد (ص) من خلالها الذهاب والإياب في الليلة نفسها. ومن يعيش في زماننا هذا لا يكون مثل هذا الأمر مستغربا أو مستحيلًا ، فقد وجدت وسائل النقل الحديثة التي تقطع هذه المسافات في وقت قصير جدًّا مقارنة بالأزمان السابقة.
وبالرد على الإشكال الثاني نطوي صفحة البحث لهذا اليوم على أمل أن نعاود فتحها في الجزء المقبل منه بإذن الله تعالى .



error: المحتوي محمي