الإسراء حقيقة أم خيال؟؟.. الجزء (الأول)

جدل حول الإسراء

سنتناول في هذه السلسلة البحثية ما أُثيرَ في الآونةِ الأخيرةِ من جدل واسع بين الأوساط العلمية و الثقافية حول قضية قرآنية مهمة وهي قضية الإسراء، التي كثرت التساؤلات والأحاديث والإشكالات حولها فهل هي حقيقة أم خيال؟.
و قد طَرحت هذه الإشكالية جهات عديدة من ثقافات متقاطعة ، واتجاهات مختلفة ، اتجه بعضها نحو الإفراط واتجه الآخر نحو التفريط، سواء كــان المتجهون منحرفين عن الديــن، أو متشددين لــه وبــه، وهنا سنضع بين يــدي القارئ العزيز جميع الاشكالات بمختلف مشاربها ومآربها بأسلوب مغاير عن ما هو سائد ومألوف.
وقبل أن نلج إلى صلب الموضوع لا بد أن نستهله بمقدمة مهمة حول الوقفات حول الآية الشريفة من سورة الإسراء: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ( الاسراء 1)
لفظ «الإسراء» : تعبير قرآني أطلق على حادثة خاصّة اختصّ بها النبي الأعظم محمد (ص) من ضمن أحداث سيرتــــه الطاهرة ، ما يقتضي الإيمان بها والإقرار بحدوثها ؛ و ذلك لورودها في القرآن الكريم بعد التسليم بأنه نزل مـن الله فلا نقص ولا زيادة فيه ، كما نؤمن بوجداننا عقيدًة وسلوكًا.

وقفة مع آية الإسراء:
1- التعبير بـ (سبحان الذي) أي سبحان الله : هذا أســلــوب مــن أساليــب التعجّب المبثوثة في القرآن، وفي العديد من الروايات والأدعية المأثورة. وابتداء الآية به يشير إلى عظمة الحادثة، ولا يبعد أنّ ذلك ناشئ من كونها حــادثة خارقة للعادة العرفية ، وإخبار غيبي مندمج مع النبرة الدالة على الرفعة.
2ـ (أسرى): يُفرّق اللغويون بين الفعل (سار) وبين الفعل القريب منه في المعنى (سَرَى)، حيث يفيد الأول منهما معنى الانتقال دون تحديد زمنه بكونه ليلًا أو نهارًا أو كيفيته بأن يكون على الأقدام أو على راحلة ، فيـذكــر المجمع القاهري في بيانه للآية الكريمة: ﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلُ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا﴾ [القصص: 29] بأن معنى: «سَارَ بِأَهْلِهِ: انتقل بهم وارتحل» (معجم ألفاظ القرآن الكريم، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ج1/ 615)، وهو من الجذر اللغوي (س ي ر). أما الفعل (سَرَى) فيفيد في أحد معانيه : الســيــر ليلًا (المصدر السابق، ج1/ 570)، ولذلك يفهم من قوله تعالى:﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا﴾ [طه: 77] أن الطلب الإلهي من نبي الله موسى (ع) كان بالسير بأهله ليلًا.
وقد ورد استعمالها في القرآن مقرونةً بذكر الليل في أكثر من مورد، منها :
– قوله تعالى: ﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطَعٍ مِنَ اللَّيْلِ﴾.
– ومنها الآية محلّ البحث، حيث قال تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾.
ولذكر الليل في هذه الآية المباركة ونظيراتها مجموعة من الوجوه البلاغية، يذكرها محيي الدين الدرويش، منها: «أن الإشارة بتنكير الليل إلى تقليل مدّته ؛ لأنّ التنكير فيه قد دلّ على معنى البعضية ، وهذا بخلاف ما لو قيل: أسرى بعبده الليل، فإن التركيب مع التعريف يفيد استغراق السير لجميع أجزاء الليل» (إعراب القرآن وبيانه، محيي الدين الدرويش، ج4/ 324 – 325).
ومن التحقيقات الجيدة للعلامة المصطفوي في تحقيق أصل الفعلين (سار) و(سرى) أنهما يرجعان إلى معنى مشترك ، وهو «السير بلا تظاهر وإعلان وجهر، بل بالسرّ والخفاء، ماديًّا ومعنويًّا. فالمادي – كما في : ﴿ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطَعٍ مِنَ اللَّيْلِ﴾، والمعنوي : ﴿ أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ﴾ … فالإسراء – في هذه الموارد – لازم أن يكون سرًّا وبالإخفاء دون الجهر والإعلان، اتقاءً من كيد العدوّ وتحفّظًا من مقابلته». (التحقيق في كلمات القرآن، العلامة المصطفوي، ج5/ 139 – 141)
كما أجد من المهمّ التفريق بين التعبير بِـ «سَرَى» و «أَسْرَى»، حيث إن الأول يعدّ فعلًا لازمًا ، لا يتعدّى إلّا إلى فاعل، فعندما يقال: «سَرَى فُلَانٌ إلى منزله» يفاد منه: أنه توجّه إلى منزله دون دفع أو توجيه من شخص آخر، وإنما بتوجّه ذاتي . ولكنّ الفعل « أَسْرَى » أضيفت إليه همزة التعدية التي تفيد وجود طرفين ، أحدهما من مارس السير، فيما يقوم الطرف الآخر بدور التوجيه والدفع نحو السير والتحكّم في مساره بدءًا وانتهاءً.
وذلك كما هي الحال مع الفعلين: «جَلَسَ» و «أَجْلَسَ»، حيث تفيد الأولى معنى الجلوس بدافع ذاتي، فيما تفيد الثانية : معنى الجلوس بدافع خارجي يمارَس فيه التحكم من طرفٍ ثانٍ.
ولذلك يمكن الخروج بأن مقطع: ﴿ أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ﴾: يفيد معنى انتقال نبي الله محمد (ص) إلى المسجد الأقصى خفيةً في وقتٍ استغرق بعضًا من الليل، وأنّ ذلك بإرادةٍ إلهية.

ولأنّ الهمزة في «أسرى» هي للتعدية ، من المفترض أن يتعدّى الفعل إلى اثنين دون حــــــرف جــــرّ، فيقال: «أسرى عَبْدَه» و «أَسْرِ أهْلَك» دون الحاجة إلى الباء. ولكنّ الباء قد يُؤتَى بها للتأكيد، كما في قوله تعالى: ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَة﴾ وَقوله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيدِيكُمْ﴾، إذ يصحّ القول: «وهزي إليك جذعَ النخلة» و«ولا تلقوا أيديَكم». ﴿انظر: إعراب القرآن وبيانه، محيي الدين الدرويش، ج4/ 601 – 602)

3ـ (بِعَبْدِهِ) : لعلّ تعبير الآية الكريمة بِـ « عبده » دون «رسوله»، مثلًا، يستفاد منه عدم التلميح إلى الجانب الدعـوي أو الرسالي لصاحب الحدث ، وعدم تركيز الآية المباركة على هذا الجانب في النبي (ص) تُمكــنــنــا مـن الاستنتاج بأن حادثة الإسراء ليست معجزة لتحدي الكفّار، بل هي كرامة للنبي (ص) حيث يعلّل الله هذه الحــادثــــة بقوله ﴿ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا﴾،وهذه الفكرة غير متبلورة علميا عند أكثر العلماء، ويحسن الفرز بينهما لأنهما يحلان كثير من المشاكل العلمية.

4ـ ﴿ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ﴾ : إشارة قرآنية إلى أنّ هـدف الحدث كان تثبيت الإيمان وترسيخ الدين في قلبه ، وهـو ما يشابه إلى حـدٍّ ما قوله أيضا : ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ﴾ ( الأنعام 75)، متحــدّثًا عـن نبي الله إبراهيم (ع).
وبهذا القدر نكتفي من البحث لكي لا نطيل عليك أيها القارئ العزيز … تابع



error: المحتوي محمي