وما عسانا أن نسطر من كلمات في حق عصارة الدوحة المحمدية والامتداد لمدرسة الكمال والرقي الروحي والأخلاقي والاجتماعي، إذ أن سيرته (ع) تجسيد عملي لتعاليم وقيم الدين الحنيف ومنهج عملي لخلافة الإنسان على الأرض، والمهم في تأملاتنا في هذه الشخصية العظيمة هي معرفة معالمها وأبعادها، ومن ثم البحث عن سبل وطرق السير على خطاها وتنفيذ الوصايا والتعاليم التي تأخذ بعقولنا باتجاه الوعي والرشد، والرقي بسلوكياتنا عن مستنقعات الرذيلة والعيوب تحصيلًا لحالة الطهارة والسمو، وإلا فإن الإمام المجتبى (ع) غني عن التعريف بمقامه وصفاته الغراء.
الجانب الأول الذي نلقي عليه الضوء هو جانب العلاقة التي نسجها الإمام مع خالقه في محراب الطاعة والعبادة، إذ يحمل وقوفه بين يدي الله تعالى – وقد ارتعدت فرائصه وعلته الخشية منه سبحانه – كل معاني الأدب والمعرفة بمقام العظمة، وتعريف بتلك المضامين العالية التي ضمتها العبادات في صنع شخصية الإنسان؛ إذ أن الهدف الأسمى من الصلاة والصوم والحج وبقية العبادات هو التقوى وتجنّب ارتكاب شيء من محارم الله تعالى، بحيث تغدو وتتحول العبادات إلى طاقة روحية تكسب الإنسان يقظة ومنعة تجاه تزيين النزوات والخطايا، إذ يمتلك وعيًا بمخاطر المعاصي وما تجره على صاحبها من ويلات ونقمات تحيق به فيقف بكل صلابة واقتدار أمامها، وهذه الإرادة القوية في ساحة المواجهة مع السيئات تعني انتصارًا على شهوات النفس الأمارة بالسوء وحصانة في ميدان الابتلاء والاختبار الذي لا تخلو منه أي ساعة من ساعات الأعمار، فهل يمكننا التمسك بخيط الحصانة واليقظة الروحية ونسلك باتجاه التكامل في الوعي والسلوك، ونجعل من محطات العبادة المنبع العذب والدفاق لتنبهنا بمخاطر الالتفات والاستماع للصوت الشيطاني الداعي للمعصية.
لننظر إلى ما وصل إلينا من وصف دقيق للحالة الإيمانية التي تعتري الإمام المجتبى (ع) مع قرب ساعة الأذان والإعلان عن الاستعداد والتهيؤ للوقوف بين يدي الجبار، فقد أشارت الروايات الشريفة التي تتحدث عن حالة الإمام (ع) في الصلاة وقد انفصل تمامًا عن عالم الدنيا وحلقت نفسه الطاهرة في عالم الملكوت والعظمة، قد أفرغ قلبه الشريف ومخيلته من كل صور الدنيا ومتاعها والتي تشغل عن التوجه الحقيقي لله عز وجل وصارفة له عن التزود من مكتسبات ومعاني الصلاة، قد هامت نفسه ووجدت ما يطفئ لهيب الشوق ويضفي عليها السكينة والحكمة مع كل محطة ووقت من أوقات الصلاة، فكيف لنا أن نصل إلى هذه الدرجة من الإدراك بحقيقة الصلاة وأنها ليست بطقوس تؤدى مجردة من التفاعل العقلي والوجداني معها، وأن الصوم لا يعني الإمساك عن الطعام والشراب وحدها، مع إطلاق العنان للجوارح لتفعل ما تشاء وتبقى طامحة حتى تجره نحو صوت الشيطان وتوقعه في حفر السيئات، وإنما العبادة وسيلة لغاية كبرى وهي التدرج في درجات الورع عن محارم الله تعالى والخشية منه، والتقرب إليه بما يصنع منا شخصيات إيمانية قوية وعصية على تسويلات النفس وحذرة في الدنيا من الاستجابة للآثام.
هذه الصورة الملكوتية لعبادة الإمام الحسن (ع) هي الحقيقة التي يبحث عنها المؤمن ويسعى لتحصيلها، ويرغب في التعرف على الآليات والشرائط التي تنقله من صورة العبادة إلى كنهها ومضمونها، والآلية المهمة هي حضور القلب أثناء العبادة فيستشعر بأنه في محضر الله تعالى وهو سبحانه يبصر كل أحواله، ومن أهم العوامل التي تحرمنا من حضور القلب هو استحضارنا لصورنا اليومية واهتماماتنا الدنيوية ومشاغلنا إلى ساحة العبادة، فتكون تلك العبادة هيكلة وهيئة بلا روح ولا مضمون بل هي صورة صلاة أو صوم، وهنا ينبغي التأكيد على أهمية الاستعداد النفسي قبل البدء في أي عبادة، حيث يتصور المرء هذا المقام الذي منحه الباري له بالوقوف في محراب الطاعة ولم يشغله شيء من حطام الدنيا، وأما حضور الموقف في يوم القيامة وتطاير الكتب والاصطفاف للحساب ونصب موازين الأعمال، فهو بوابة التهيؤ والحرص على المحافظة على العبادة من أي سرقة، فالشيطان الرجيم يسعى سعيًا حثيثًا لتخريب علاقتنا بالله تعالى وحرماننا من الرجوع والإنابة إليه تعالى، وحري بنا أن نجعل من السيرة العبادية للإمام المجتبى مثالًا يحتذى به في تقوية علاقتنا بالله تعالى وتصحيح مسارها، نسعى لعبادة تحقق مضمون النهي عن ارتكاب المنكرات والمحارم.