هكذا تكلم د. حسن ظاظا

في مناسبة ثقافية بالقاهرة تحدث أحد أساتذة الأدب بجامعتها، عن أن “د. حسن ظاظا” ليس مصريًا أصيلًا! مشيرًا إلى المقابلة المتلفزة الوحيدة في برنامجي (هذا هو) التي بثتها mbc سنة 1995م، مع أستاذ الأدب العبري والفكر اليهودي.. الذي ذهب لدراستهما في الجامعة العبرية بالقدس سنة 1944م قبل قيام دولة إسرائيل سنة 1948م، وقد حصل فيها على درجة الماجستير حول (أثر المناهج الإسلامية في تأليف العلوم الدينية عند اليهود).

والعجب أنه ذهب بتوصية من “أبا إيبان”! الذي ترجم بعض روايات توفيق الحكيم الأولى، حين كان يعمل في القاهرة ضابط اتصال بين المستعمر البريطاني، والجماعات اليهودية في العالم العربي، استعدادًا لتهجيرها إلى إسرائيل، قبل توليه منصب وزير خارجية الدولة العبرية.

أما “حسن ظاظا” فقد سافر إلى فرنسا ملتحقًا بمدرسة اللغات الشرقية بباريس، حاصلًا في عام 1958م على دكتوراة الدولة في الآداب من السوربون بجامعة باريس.

وقد حل في الرياض أستاذًا في جامعتها -منتصف السبعينيات الميلادية- مع نخبة مختارة من الأكاديميين المصريين، شرفت بأني تتلمذت على أيديهم، وكان حظي أن أحضر محاضراته في فقه اللغة، وإذ شدتني ثقافته الموسوعية المبهرة.. طلبت منه سنة 1983م -أثناء عملي مشرفًا على إصدار جريدة الرياض الثقافي (الرياض الأسبوعي)- أن يطل على تلامذته وعارفيه بمقالة أسبوعية.

تلكأ أول الأمر، متذرعًا بأنه لم يعتد الكتابة في الصحف، ولعله تحفز للكتابة وأنا أتعهد له بصرف مكافأة مجزية، وهذا ما تم حيث لم يتوقف بعدها مع توقف الإصدار الأسبوعي، مستمرًا فيما سميته، مداعبًا في إرسال (صك) مقاله (الكشكول) الذي اعتاد تقديمه ملفوفًا للنشر كل خميس في جريدة الرياض.

وقد راقه العمل في الجامعة، والحياة في مجتمع الرياض، رغم اقترانه بفرنسية.. وقد حظي لأريحيته وظرفه، بشبكة هائلة من العلاقات العامة، تقدمها صديقنا المفكر د. راشد المبارك، الذي رعاه حق الرعاية حتى أخريات حياته، حيث توفي في المدينة التي أحبها، ودفن في مقبرة (النسيم) في الخامس والعشرين من شهر ذي الحجة سنة 1419 هجرية.


حسن محمد توفيق ظاظا، عالم مصري، من أشهر المختصين في اللغة العربية واللغات السامية، ولد عام 1919، وتوفي عام 1999م.

* تخرج في جامعة القاهرة بليسانس في اللغة العربية واللغات السامية عام 1941م.

* حصل على الماجستير في الأدب العبري والفكر اليهودي من الجامعة العبرية بالقدس في فلسطين عام 1944.

* نال دكتوراه الدولة في الآداب من السوربون بجامعة باريس، بدرجة الشرف الأولى عام 1958.

* من أعماله:

– اللسان والإنسان.

– الساميون ولغاتهم.

– كلام العرب.

– الفكر الديني اليهودي.

– الشخصية الإسرائيلية.

– أبحاث في الفكر اليهودي.

رغم بساطة ضيفنا وتبسطه إَّلا أنني أجد حيرة في تقديمه، فكيف أقدّمه؟ أًأُقدمه بوصفه أديباً ناصع العبارة مشرق الأسلوب، أم عالماً متخصصاً في قضايا اللغة واللغات السامية، أو على وجه الدِّقَّة باحثاً في دراسة التاريخ اليهودي والشخصية اليهودية، لكننا ندع الحوار يقدّم الأستاذ حسن ظاظا.

حسن ظاظا: شكراً لهذا التقديم الفضفاض جدّاً،وأنا أحيي الأستاذ محمد رضا نصر الله، فأنا دائماً في الأستوديو أو خارجه أجد سروراً كبيراً جدّاً في تبادل الحديث معه.

محمد رضا نصر الله: شكراً جزيلاً. أستاذنا الدكتور حسن، لنبدأ منذ البداية، وبرنامجنا هو حديث سيري عن الذات، لنبدأ منذ البداية بعد ميلادك في عام 1919 ميلادية، وهو تاريخ له معناه في التاريخ السياسي المعاصر لمصر، هل بالإمكان أن تستجمع لنا صورة عن تربيتك وتأهيلك الدراسي في إطار الوضع المصري، حيث كانت القاهرة ومصر تواجه -وقتذاك- جملة من التحديات، وفي مقدمتها التحدي الاستعماري البريطاني؟

حسن ظاظا: أنا ولدت في شهر 6 عام 1919 في حي الدرب الأحمر القريب جدّاً من حي الأزهر، وفي غرفة كان ينالها رصاص الإنكليز من ثلاثة أركان لأن الركن الرابع كان متصلاً بغرفة أخرى، ولدت في وسط أزيز الرصاص، وفي وسط غطرسة المستعمر في مصر، بعد هذا كان جدي رحمة الله عليه قد نذر إن ولدت ابنته هي أمي ولداً أن يدخل الأزهر، وفُرض عليَّهذا النذر، فأرسلت إلى الكتّاب لأحفظ القرآن،وحفظته فعلاً، وكان معلمي هناك هو الشيخ محمد شلبي، وهو جد الصديق والناقد الكبير الدكتور شكري عيّاد، وكان يساعده ابنه الشيخ عبد الفتاح شلبي الذي اشتهر بعد ذلك فأصبح نقيب شعراء الشعب في مصر، ونشرت له وزارة الثقافة عملاً جليلاًجدّاً هو كتابة (السيرة النبوية) بالزجل. بعد هذا دخلت المدرسة، وكان جدي قد اختلف مع أبي في مسائل تربيتي، حيث كان مقرراً أن أدخل القسم الابتدائي في الأزهر، فأدخلني أبي المدرسة الابتدائية الحكومية في التعليم المدني، وكانت الصعوبة الكبيرة هي اللغة الإنجليزية؛ لأن الازهر لا يدرس اللغة الإنكليزية، وكنت أعدّ نفسي للأزهر، فكان في استعدادي الداخلي عدمالاكتراث بمعرفة لغة أجنبية، ومن سخرية المقادير أن قضي عليَّ بعد هذا أن أتعلم وأن أقرأ وأن أكتب بأكثر من لغة أجنبية، فهذا شيء من قبيل: وتقدرون فتضحكُالأقدار.

محمد رضا نصر الله: دكتور حسن، نحن نعلم أنا شخصيّاً في الأقل وبعض الأصدقاء أنك من أرومةكردية، وقد كان أبوك وجدك أو جدك بالأحرى كرديّاً صارماً وله موقف مع الخديوي، من هنا نريد أن نتعرف على فسيفساء المجتمع المصري والتركيبة الإثنية الموجودة في هذا المجتمع الذي احتضن العديد من الإثنيات والعناصر القومية.

حسن ظاظا: يحار اللبيب في الأثنولوجيا المصرية؛لأنها مجموعة من أعراق وعناصر تبدأ من خط الاستواء وتنتهي قرب القطب الشمالي، فيها الأكراد الذين هم ظاظا، وهم قبيلة كردية تقيم وما زالت في تركيا إلى الآن ويناصبها الأتراك العداء. وفيهم –أيضاً من قبط مصر الذين أسلم منهم عدد كبير جدّاً. وفيهم النوبيون القادمون من جنوب مصر أو حتى من جنوب وادي النيل، وهم عدد كبير جدّاً. وفيهم المغاربة كثير جدّاً،وكانوا عند أول مجيئهم خصوصاً بعد الاحتلال الفرنسي للشمال الأفريقي يقيمون في أحياء خاصة بهم، منها حارة المغاربة في الإسكندرية، وحارة الفحامين في القاهرة، إنما مع طول الإقامة ومع الاختلاط بالشعب المصري اندمجوا وأصبحوا جزءًا لا يتجزَّأ من المصريين، وأصبحوا مصريين وجزءاً لا يتجزّأ من هذه التركيبة الإثنية للشعب المصري.

محمد رضا نصر الله: نعود إليك وإلى كرديتك دكتور حسن، هل بالإمكان أن تقصَّ علينا ما جرى بين جدك والخيديوي؟

حسن ظاظا: الذي جرى هو بين جد أبي وليس جدي عثمان ظاظا، وكان محارباً يطالب بشيء من الاستقلال الذاتي للكردستان التركية، وكان السلطان التركي يحاربه ويطارده لهذا السبب، إلى أن وقعت الواقعة بين تركيا ومحمد علي المصري في هذا الوقت، وأرسل محمد علي ابنه إبراهيم باشا لمحاربة السلطان في تركيا، فانضم إليه جد أبي عثمان واشترك معه في معاركه إلى أن وصل إلى كوتايا وأُعلنت الهدنة، فخشي على نفسه ورجع مع إبراهيم باشا إلى مصر، ثم أرسله محمد علي إلى السودان الذي كان واقعاً تحت السيطرة المصرية في هذا الوقت، وكانت فيها عناصر تتمرّد على حكم محمد علي، فأرسله إلى هناك بحكم أنه مقاتل مجرِّب وعنيد، حيث اشتهر بأنه عنيد جدّاً، فوصل إلى هناك، ثم اكتشف في جنوب السودان جماعة من الشعب لم تصلهم لا دعوة المسيح ولا دعوة الإسلام ولا دعوة موسى ولا عيسى، وأنهم بقوا يعبدون القرد والثعبان والتمساح، فكان هو يطاردهم ويفرض عليهم الإسلام أو القتل، فسمع محمد علي بهذا وبنجاحاته في جنوب السودان، وحينها كان قد وصل إلى مديرية بحر الغزال ودخل مدينة جوبا بمدفعيته، فأرسل يستدعيه على عجل بأمر من الحاكم الذي هو محمد علي، فرد عليه قال: آسف، لا أريد أن أطيع أمرك؛ لأن الوضع أمامي الآن وأنا أنفذ فيه أمر الله، فأدخل أناساً في الإسلام كثيرين جدّاً.

محمد رضا نصر الله: وماذا عن والدك الذي يبدو أنه قد درس الجغرافيا وحصل على الليسانس فيها؟

حسن ظاظا: حصل على الليسانس في الجغرافيا من إنكلترا وعاد إلى مصر في عام 1904، فعيّن مدرساً للجغرافيا والتاريخ في مدرسة ثانوية في دلتا النيل،فملّ هذه الحياة، حيث كانت بطبيعته مغامراً جدّاً،وكانت الحياة الرتيبة المتكررة تؤذيه عصبيّاً.

محمد رضا نصر الله: لهذا مال إلى الفن فالتحق بفرقة جورج أبيض؟

حسن ظاظا: التقى بجورج أبيض وكان قد تعرف إليه على ظهر باخرة، حيث كانا راجعين من أوروبا الاثنين، وكان جورج أبيض قد أرسله الخديوي عباس ليستطلع مستحدثات الفن المسرحي في أوربا واختيار ما يمكن إدخاله في نهضة المسرح في مصر، فتعرفإليه ودعاه جورج أبيض إلى التعاون معه، لأنه يعرف الإنكليزية ويعرف الفرنسية حيث درسها في مصر قبل أن يذهب إلى إنكلترا، ويعرف العربية ويتقنها جدّاً،ويحفظ القرآن كله، فقال جورج أبيض: نستطيع أن نتعاون على ترجمة آثار مسرحية عالمية وتمثيلها. لكنه خاف من التضييق عليه من قبل الأسرة، لأنه في هذا الوقت كان الرأي العام لا يحترم الممثلين أبداً، وكان التوجّه السائد هو توجه الأزهر، وهو يعتبر هذا بدعة،وبدعة ممقوتة جدّاً، وماسة بالكرامة وكل شيء، فرفض.ثم ضاق صدره بالتعليم فلم تكتمل السنة الدراسية الأولى فخرج باحثاً عن جورج أبيض فوجده يستعد للسفر بفرقته في جولة، وأخبره أنه يسافر إلى تونس ومنها إلى بيروت ثم إلى إسطنبول ليقدم عدة حفلات،ونظراً إلى كون والدي محمد توفيق ظاظا لا يحفظ أدوار الروايات ولم يتدرّب على التمثيل فما ينفع أن يخرج معهم في هذه الجولة.

محمد رضا نصر الله: إذن فاتته الفرصة.

حسن ظاظا: فاتته الفرصة، لكن أراد جورج أبيض أن يحتفظ به على صلة، فأرسله إلى أحد متعّهدي الحفلات المسرحية في مصر، وكان له نشاط كبير، وهو إسكندر فرح لبناني، فأخذه إسكندر فرح وألحقه بفرقة الشيخ سلامة حجازي، المطرب المشهور في هذا الوقت،وكان يقدم أوبريت روميو وجولييت، وكان الرجل في هذا الوقت قد أصيب بالشلل، فكانت تسدل الستارة إلى أن يحملوه ويجلسوه على كرسي ثم تفتح الستارة،فيغني أغنيته وهو جالس، وكان أبي في هذا الوقت يقوم بدور أحد البارونات الكبار بجسمه ووجهه وكذا، فكان يأتي دوره بعد سلامة حجازي، وهو دور غير غنائي بلتمثيلي.

محمد رضا نصر الله: إذن هل نستطيع أن نقول:إن دكتور حسن ظاظا هو خلاصة لهذه الجينات المتناقضة، جينات جده الذي كان جادّاً وحاسماً وشخصية والده الذي كان ميّالاً لأن يكون فنّاناً بسيطاً؟ هل بالإمكان أن نقول: إن شخصية الدكتور حسن ظاظا تجمع هذه المفارقات عبر تخصّصه الدقيق في دراسة اللغات، واللغات السامية والعبرية تحديداً، واهتمامه بالفن التشكيلي مثلاً والآداب والشعر؟

حسن ظاظا: أستطيع أن أزيد على هذا. كان لي عم (شقيق أبي وكان الرجل كفيف البصر، وشيخاً من علماء الأزهر، اسمه محمود ظاظا، وهو في منتهى المرح ومن أصحاب النكتة التي تنتشر كالكهرباء، وربما أخذتُ منه هذا الميل إلى المرح، أما أبي فلم يكن مرحاًبشكل ملحوظ، بينما عمي الأزهري كان كلامه كله محشيًّا بالنكت والضحك والمداعبات، فكان يعجبني جدّاً الجلوس والاستماع إليه، فيمكن أنه كان السبب في ميلي حتى فيما أكتب من الكتابات الأدبية الخفيفة إلى هذا المرح وهذا الضحك، وبُعدي عن الجماعة الذين يعلنون الكوارث ويطالبون الناس بالبكاء، فلا أحب هذا.

محمد رضا نصر الله: لنقف عند المحطة الجامعية،فقد درستَ في جامعة القاهرة وتخصّصتَ بعد ذلك في دراسة اللغات السامية واللغة العبرية، حيث أوفدك أستاذك كراوس إلى القدس قبل قيام الدولة اليهودية.هل بالإمكان أن تتحدث لنا عن هذه الفترة لدخولك إلى الجامعة مثلاً، واتصالك برموز التدريس الفكري والأدبي الثقافي البارزين أمثال طه حسين وأحمد أمين وأحمد ضيف أيضاً، ذلك الذي ذهب قريناً في بعثة الدكتور طه حسين إلى باريس.

حسن ظاظا: الجامعة في هذا الوقت كان من يدخلها يجد فرصة يظل طول حياته يُحسد عليها.وعندما دخلتها كان أساتذة التاريخ والفلسفة والأدبمن الأسماء اللامعة، فكان طه حسين للأدب والنقد الأدبي، وأحمد أمين للتاريخ والأدب العباسي وتاريخ الحضارة العربية، والشيخ مصطفى عبد الرازق للفكر والفلسفة الإسلاميين، والدكتور عبدالوهاب عزّام للأدب المقارن الفارسي والعربي، ولطفي السيد باشا كان مدير الجامعة في ذلك الوقت، وكان كثير التجوّل في كليات الجامعة وخصوصاً كلية الآداب بالذات، وكان يحلو له أحياناً أن يظهر فجأة في وقت الامتحان الشفوي في اللغة العربية أو في الفلسفة الإسلامية.

محمد رضا نصر الله: هل بالإمكان أن نتحدث عن شخصية أكاديمية وفكرية أخرى هو الدكتور طه حسين الذي كان وقتها يشغل الناس بمقالاته وأطروحاته التي أوجدت انقساماً في الوسط الثقافي المصري في الثلاثينات وقبل ذلك في العشرينات؟

حسن ظاظا: الدكتور طه حسين كان رجلاً مثيراًجدّاً، وأنا طالب سارت مظاهرات مضادة لطه حسين آتية من الأزهر عندما قرّر قبول عدد كبير جدّاً من الطالبات في الجامعة حيث وصل عددهم إلى ما يساوي عدد البنين الآن، ومن قبل ذلك كن ثلاث أو أربع فقط، منهم سهير القلماوي ونعيمة الأيوبي وفاطمة سالم سيف، معروفات بأسمائهن، إنما بعد هذا قَبِلَ دفعات كبيرة جدّاً، فكتب أحد شيوخ الأزهر مقالاً ملتهباً ضد طه حسين وضد انحلاله وتسيّبه إلى آخره، طلب طه حسين من جريدة الجهاد التي كانت تنتظر في هذا الوقت أن تنشر له ردّاً، وفي رده قال طه حسين: أقول ما قاله الشاعر القديم:

لا يضر البحر أمسى زاخراً​​أن رمى فيه غلام بحجر

فاشتعلت غضبة الأزهر كله، وجاء بعض الأزهريين بقصد الاعتداء على طه حسين.

محمد رضا نصر الله: اعتداء جسدي؟

حسن ظاظا: نعم، حطّموا باب الكلية، وتصدَّى لهم حرس الجامعة، وكانت الجامعة تعتبر حرماً لها حرسها،ولا تدخلها الشرطة ولا قوات الأمن، إنما يدافع عنها حرسها، ففشل الحرس ووقفت قوات الأمن في هذا الوقت حائرة ماذا تصنع، أترسل قوّاتاً؟ وبهذا الشكل تكون تعدّت على حرس الجامعة، أو تعدّت على حرمها.فتولَّى طلاب طه حسين وتلاميذه صد هذه الهجمة ونجحوا فعلاً، وأذكر منهم واحداً كان واقفاً على سطح الكلية يُشعل ورقاً مهملاً ويرميه ويصيح ويقول: تفرّقوا وإلا سنحضر قاذفات اللهب، وهي في الحقيقة أوراق، فتفرّقوا فعلاً وانتهت المسألة بدون قتلى ولا جرحى والحمد لله، ولا تحطيم للكلية ولا شيء، إنما كانت مظاهرة صاخبة تهتف بسقوط طه حسين واستحقاقه للموت وإلى آخره.

محمد رضا نصر الله: يعني هذا هنالك في الطرف الآخر مناصرون لطه حسين.

حسن ظاظا: كان هناك مناصرون لطه حسين كثيرون جدّاً، وكان منهم مفكرون، أما من وقفوا على الحياد في هذا الحدث فهم قلائل، حتى عباس محمود العقاد، وهو أستاذ، وكان يناضل ضد أفكار طه حسين لكنه في هذه المسألة انبرى مدافعاً عنه، وعبد الرزاق السنهوري المشرّع الكبير دافع عنه أيضاً، والشيخ مصطفى عبد الرازق دافع عنه كذلك، وهو شيخ، كل هؤلاء تولوا الدفاع عن طه حسين في هذه المحنة وفي غيرها.

محمد رضا نصر الله: ألا ترى أن هذا الصراع كان يجسّد حيوية الوضع الثقافي في مصر، حيث تكوّنت تيارات أدبية وفكرية وسياسية وقتذاك منذ العشرينات؟

حسن ظاظا: لا شك أبداً أن هذا الصراع أظهر مصر أمام المحتل البريطاني على أنها ناضجة للاستقلال، وأن الإنسان المصري لا تُملى عليه العقائد ولا النظم من فوق، وإنما لكل واحد عقيدته ونظامه وكذا، وهو حر فيها، فهذا لم يُخف المتزمّتين بقدر ما أخاف الإنكليز؛ ولذلك مع ثورة 19 -وهي السنة التي ولدت فيها بدأت المفاوضات في هذا الوقت واستمرت بعد ذلك في سنة 36، واعترفت إنكلترا بأن مصر دولة مستقلة ذات سيادة، وأن المصالح البريطانية توضع في نقط استراتيجية مهمّة وبعيدة عن أنظار الشعب، فحصروها في منطقة قناة السويس، على أنها هذه شريان تمر منه سفنهم إلى الهند وإلى الشرق الأقصى بعد هذا. وقبل ذلك وأنا لا زلت في المدارس الابتدائية والثانوية كنت أرى الجنود البريطانيين لهم ثكنات في قلعة القاهرة بجانب مسجد محمد علي، وأجد أيضاًلهم ثكنة ضخمة جدّاً على ضفاف النيل محل مبنى جامعة الدول العربية الآن. وكل هذا انتهى على أثر هذه المفاوضات وبقيت قاعدة لهم في بور سعيد وفي السويس وفي الإسماعيلية فقط، ومع ذلك لم يكونوا فيها أحراراً؛ لأن الشركة المستغلّة لقناة السويس في هذا الوقت كانت شركة فرنسية، مما يعني أنه كان هناكنوع من الانكماش للمحتل الإنكليزي. وهناك نوع من الإفساد السياسي الذي كان يقوم به الإنكليز في الهيئة الحاكمة المصرية يشيرون على الملك أحياناً بأن أزل فلاناً وضع فلاناً وإلى آخره، ويكون فلان الذي أزالوه من غير الموالين لهم، فيأتي شخص آخر موالٍلهم، ولا يوجد إلَّا حسين باشا صبري الذي كان غريباًجدّاً، حيث كان يقاوم الإنكليز، وإذا فكّر الإنكليز أن يستبدلوه بغيره يوحى إلى الجرائد الوطنية الكارهة للإنكليز أن تصبَّ جام غضبها عليه، فالإنكليز يشعرون بالراحة بأن هذا غير مرضي عنه ويتركون المصريين هم الذين يتخلّصون منه، لكنهم لا يتخلّصوا منه.

محمد رضا نصر الله: فيما يتعلّق بأثر المستشرقين في الفكر العربي المعاصر نجد العديد من هؤلاء المستشرقين يقومون بأدوار أحياناً تصل إلى حدِّالتناقض، ففي الوقت الذي كان المستشرق هو رسول ابتعثته وزارة المستعمرات البريطانية ليجمع المعلوماتأو يتصل بالمخابرات البريطانية، في الوقت نفسه –أيضًا بعض هؤلاء المستشرقين قدّموا خدمات علمية كبيرة لا تُنكر عبر اهتمامهم بتقديم التراث العربي بإزالة ركام أو غبار النسيان عنه، الذي كان يحجب عناأمهات الكتب العربية. هنا نريد من خلال احتكاكك المباشر أنت يا دكتور حسن ظاظا بنمط من هؤلاء المستشرقين الذين التقيتهم في جامعة القاهرة حيثكان أستاذك كراوس واحداً من هؤلاء، هل بالإمكان أن تقدم لنا نظرة موضوعية عن دور هؤلاء المستشرقين والخدمات التي قدّموها لحركة الثقافة العربية والتراث العربي؟

حسن ظاظا: المستشرق واحد من ثلاثة: إما جاسوس، وإما مبشّر بدين آخر غير الإسلام، وإما رجل محب للعلم فعلاً. هؤلاء الثلاثة موجودون بكثرة في الدول النامية أو الدول التي كانت نائمة وليست نامية في هذا الوقت، كان هؤلاء الثلاثة ممثلين في مصر، مثلاً اثنين من المستشرقين يهود وهما أوغست ميلر وجولد سيهر صاحب التآليف الشهيرة عن الفقه والشريعة الإسلامية وتاريخ القرآن وأشياء كثيرة، والثاني هو ناشر أدق نشرة عن مخطوط كتاب طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة، وهما جاءا حبّاً في العلم حقيقة؛ وكانا يهودين نمساويين أو بلغاريين، وما كان لدولهما مصالح استعمارية في مصر أبداً، لكنهما كانا ذكيين دخلا مصر فلبسا الثوب والعباءة والعمامة وتقدَّما وسجّلا نفسيهما طالبين في الأزهر ومسلمين من ألبانيا والبوسنة أو من الجهات هذه، وواحد منهما الذي هو جولد سيهر سمّى نفسه الشيخ إسحاق الزركشي.و(جولد سيهر) بالألمانية معناها المذّهب المزركشبالذهب، فترجم اسمه إلى الشيخ إسحاق الزركشي.ومولر تقدّم وسمّى نفسه الشيخ امرؤ القيس بن الطحان؛ لأن (مولر) تعني طحّاناً بالألمانية، وامرؤ القيس وغست) أي القوي الشديد. وميلر وهو طالب في الأزهر حقّق كتاب طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة وطبعه في حي الأزهر بالقاهرة. وقال: وقف على طبعه وتصحيحه الفقير إلى الله المنان امرؤ القيس بن الطحان، الذي هو أوغست ميلر، والطبعة موجودة في الأيدي إلى الآن، وهي نادرة، ولكنها موجودة.

محمد رضا نصر الله: دكتور حسن، لنقف عند دور هؤلاء المستشرقين في الجامعة المصرية وجامعة القاهرة تحديداً، حيث يتّهم البعض رموز الثقافة العربية المصرية اليوم بأنهم تلامذة للمستشرقين وعالة على الاستشراق.

حسن ظاظا: الاستشراق نبش عن كنوز الثقافة الإسلامية، وعندما يأتينا مستشرق مسيحي ويترجم المعلقات ويكتب مقدمة مثلاً، وفي هذه المقدمة كلام لا يعجبني لأنه لا يعيش معيشتي ولم يعتقد اعتقادي ولا دخل في نظام اجتماعي مثل نظامي، فهذا معذور، وليس في ذلك شيء مريب، لكن بعضهم يخطئ عمداً، وهؤلاء عندما يكتبون في السيرة النبوية -مثلاً- أو في نزول القرآن أو غير ذلك، مثل مرجوليوث ومنهم كازمسكي وهو مستشرق يهودي يجيد العربية والعبرية والفارسية، وكان يشغل كبير كتّاب السفارة الفرنسية في طهران، فالرجل ترجم القرآن ترجمة بديعة جدّاً، إنما ما كتبه عن الإسلام هي كتابة متعصّب، مع أنه عاش سنين طويلة في المجتمع الإسلامي في طهران، لكن كانت كتابته كتابة متعصب أو كتابة منبوذ، يعني لم يستطع أن يدخل في صميم المجتمع الإسلامي جيداً. وتجد -مثلاً- وستنفلد عند الألمان، وهو لغوي في اللغة العربية، وله أيضاً دراسات في الإسلام، وهي دراسات عميقة جدّاً ومؤلفات كبيرة، إنما لا يخلو من تحامل تشعر فيه أنه تحامل الاستعماري على المرشّح للاستعمار، وهذا واضح جدّاً في كتاباته، أو مثل هنري جلاند الفرنسي الذي ترجم القرآن قديماً، وحاول أن يترجم ألف ليلة وليلة إلى آخره، فهذا الرجل كان مستشرقاً لكنه كان استعماريًّا وصليبيًّا، والنموذج الإسلامي أمامه هو السلطان عثمان، وبقية المسلمين غير داخلين في حسابه، والسبب في ذلك أن السلطان العثماني كان بينه وبين أوربا كلها معارك ومواقع وخلافات رهيبة جدّاً، وإن كانت الدولة العثمانية لم تقصّر في محاولة محو هذا الأثر الباقي من الحروب الصليبية، من صور ذلك أن أول سفير عثماني يعيّن في باريس كان اسمه محمد أفندي، وله كتاب جيد جدّاً ووصلنا بلغة هذا العصر بالفرنسية، وسمّاه (جنة الكفار)، وأشار في المقدّمة إلى أنه في الأثر “الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر”، ووصف باريس بأنها جنة الكفار، ووصفه كان دقيقاً جدّاً، وكان الرجل -حسب ما يُذكر هو نفسه في كتابه وهو كتاب مطبوع وموجود ومقروء- يصف خروجه إلى المناسبات الرسمية لمقابلة الملك لويس الخامس عشر في هذا الوقت وكان حينها طفلاً تحت الوصاية ، فكان في هذه الحفلات مجلس الوصاية والملك، ويأتي محمد أفندي هذا بموكبه الحافل، فكانت الناس تترك موكب الملك والبارونات حتى يتفرّجوا على وجاهة ملابس السلك الدبلوماسي العثماني وعلى حرسهم الخارجين بالخيول المطهَّمة وبكل ما يلزمها من حلي الذهب والفضة وكذا، فكانت الناس لا تصدق؛ لأن الصورة المزروعة في أذهانهم أن هؤلاء الناس قذرون وغير متحضّرين ولا يعرفون شيئاً إلَّا قطع الطرق وقتل الناس، فرأوا الرجل لطيفاً جدّاً ويتكلّم الفرنسية، ويعرف آداب البروتوكول الدبلوماسي، فكان مندهشاً، وقال: إنه عندما وصل إلى مرسيليا على سفينة تركية مُنع من النزول بحجة أنه كان هناك بداية حمّى وبائية منتشرة في مرسيليا، فإشفاقاً عليه منعوه من النزول، وهو قد برر ذلك وقال: هذا ربما حصل ذلك بسبب أن أحد من المسؤولين مسافر ولمَّا يرجع فأرادوا أن يحتجزونا على سفينتنا إلى أن يعود هذا المسؤول، أو شيء من هذا القبيل.

محمد رضا نصر الله: هل بالإمكان هنا أن نقف مستجلين الصورة التي كانت مرسومة في الذهنية الغربية عن الإنسان العربي والمسلم؟ نحن نعلم أن الحروب الصليبية قد كرَّست مفهوماً سلبيّاً عن شخصية العربي والمسلم، ورسمت هذه الشخصية رسماً كاريكاتوريّاً، فالبعض صوَّر المسلم وكأن له ذيل، وهذا على كل حال يأتي دائماً في السجالات المتعادية بين هذا الطرف أو ذاك، فدائماً ما تُنسى القضية الأساسية ويُذهب إلى تصفية الطرف الآخر تصفية إنسانية أحياناً.

حسن ظاظا: هذا صحيح، وبقيت هذه الروح الصليبية إلى الآن مع كل الأسف، لدرجة أن بلاداً كانت تحتلها القوات الإسلامية التركية وطردت بريطانيا الأتراك منها مثل جمهورية مالطا الحديثة التي عشت فيها، فمن أوجَه المباني الموجودة في مالطا مسجد على الطراز التركي الممتاز جداً، ويقع في حديقة مطلة على البحر وخلف هذه الحديقة مقابر للجنود الذين استشهدوا من المسلمين في الدفاع عن مالطا ضد الصليبيين.

محمد رضا نصر الله: ما الذي دعاك أن تتخصّص في دراسة اللغات السامية واللغة العبرية تحديداً، هل لأن أستاذك كراوس كان مهتمّاً بهذا الجانب، ماذا عن الدافع الذاتي للإقبال على هذا اللون من المعارف المتخصّصة والدقيقة؟

حسن ظاظا: سبب اختياري للغة العبرية والسريانية أن القائمين بها كانوا قلة جدّاً، كانوا اثنين فقط، واحد يدرس العبرية وهو بول كراوس، والثاني يوسف شخط ويدرس السريانية فقط، ثم كان الطلاب يهربون من هذه الدراسات لأنها تحتاج إلى أبجديتين غير العربية: الأبجدية العبرية وتعلّم على حدة، والأبجدية السريانية، وهي مختلفة عن العبرية وعن العربية أيضاً، في حين أن الذي يختار الفارسية والتركية كان يكتب بالحرف العربي في كل هذا فلا يجد مشكلة في تعلّم الخط، لذا كان كل الطلاب يختارون الفارسية والتركية ويفرّون من العبرية والسريانية، وأنا فيَّ نزعة معينة نحو الاختلاف، فقلت: أنضم إلى الطلاب القليلين، فكان عددنا في هذه الشعبة أربعة طلاب، وكنا كأننا أسرة مع الأساتذة، وكان عدد الآخرين أكثر من خمسين طالباً في هذا الوقت، فاهتممت بالعبرية والسريانية اهتماماً جيداً جدّاً، ووجدت في الأدب السرياني بالذات شعراً ونثراً كثيرين، وفيما وجدت من الأشياء التي تقرأ عندهم ترجمة سريانية قديمة لـ(كليلة ودمنة) مثلاً، وترجمات لشعراء كثيرين جدّاً هم من أروع الشعراء الذين يمكن أن نقرأ لهم، مثل يعقوب السروجي، ومار أفريم، وعبد يشوع الصوباوي، ولأبي الفرج بن العبري قصيدة بالسريانية اسمها قصيدة الحكمة، وهي في غاية الجمال، طبعت في روما قديماً. إلى جانب أن اللغة العبرية ما كنا نقرأ فيها إلَّا التوراة، وهي الكتّاب القديم الذي يؤمن به اليهود، فكنا نجد تشابهاً بين ما نقرأ فيها وما نقرؤه في القرآن الكريم، مثل قصة يوسف، وقصة الطوفان، وقصة خلق العالم، وقصة سيدنا إبراهيم عليه السلام، كل هذا موجود فيها، ومتى ما وُضِعْنَا على طرف الخيط نكون قد عرفنا كيف نتصرّف.

محمد رضا نصر الله: لندع هذه المقارنات إلى فترة لاحقة من هذا الحوار، ونركّز حول قصة ابتعاثك إلى القدس، كأن ثمّة مكاتبات وجدلاً قد حصل بين أستاذك كراوس والدكتور طه حسين الذي كان وقتذاك مديراً لجامعة الإسكندرية، على أثرها تمّت بعثة معينة وافق عليها الدكتور طه حسين على ابتعاثك، فذهبت إلى القدس قبل قيام الدولة اليهودية.

حسن ظاظا: كانت البعثة قبل قيام الدولة اليهودية بزمن؛ لأن الإنكليز كانوا قد وضعوا يدهم على أولوية استخدام خطوط المواصلات بالسكة الحديد في مصر، حيث كان هناك حوالي مليون جندي تحت الراية البريطانية لمواجهة رومل في العلمين، فكل هؤلاء احتاجوا إلى نوع من القوانين المقيِّدة جدّاً للتنقل، فالطلاب الذين كانوا يذهبون لجامعة القاهرة ويأتون من الأرياف يجدون صعوبات شديدة من أجل مكان في القطار، لأنه كان محجوزاً من قبل الإنكليز، أو هناك مقاعد معدودة للمصريين، ففكرت الحكومة المصرية في افتتاح جامعة في الإسكندرية لتخفيف الضغط على المواصلات الذاهبة إلى القاهرة، وكتب طه حسين في هذا الوقت إلى الملك فاروق وعرض عليه الفكرة، فقال له الملك: إنه موافق بشرط أن يكون هناك مدرّس لكل مادة تدرس في الإسكندرية بدون احتياج إلى تنقلات وذهاب وإياب بين القاهرة والإسكندرية للانتداب، فوجد كل شيء إلَّا مدرس اللغة العبرية، فأرادوا أن يحدّدوا هذا، فسأل كراوس، فأجابه أنه مشغول وكذا، فقال له: إذن نعيّن ولو معيداً، فقال له: عيّن حسن ظاظا، ولكن كان عنده شخص ثانٍ من المقربين إليه، اسمه دكتور إسماعيل معتوق رحمة الله عليه، وكان عضواً في مجلس الشعب، وكان في التنظيمات الناصرية كلها بعد سقوط الملكية في مصر، فقال له: نعيّن إسماعيل معتوق، فقال له كراوس: إذا عيّنت فعيّن من تشاء، لكن إذا كان المعيّن غير حسن ظاظا فأنا غير مستعد للتعاون معكم؛ لأن هذا تلميذي وأنا أعرف ماذا درس، وأعرف حدود طاقاته وكذا، فقال له: طيب، بعد ذلك كيف نستطيع أن نتيح له أن يتم دراسته في تخصّصه، والغرب كله أوروبا وأمريكا مغلقة، وتعليم هذه اللغات غير متوفر لدينا؟ فقال له: أرسله إلى الجامعة العبرية. فراقت الفكرة لطه حسين، وكتب إلى وزارة المعارف بذلك، وردت الوزارة بأن هذا مستحيل؛ لأن فلسطين ليست من البلاد المدرجة على أسماء الجهات العلمية التي تُرسل إليها بعثات، فأعطاني هو مكافأة من الجامعة لمدة ستة أشهر أذهب فيها إلى فلسطين وأرى كيف أستطيع أن أدرس هناك ثم أعود بعد ذلك ويرى بعدها، فذهبت أطلب التأشيرة من القنصلية البريطانية التي هي كانت منتدبة لحكم فلسطين، فقال القنصل البريطاني: لا بد أن تأخذ إذناً من المنسق العسكري للقوات المتحالفة، وذهبت فوجدت نفسي أمام آبا إيبان (الذي أصبح فيما بعد وزير خارجية إسرائيل)، وكان مكتبه في القاهرة في شارع القصر العيني، وهو ضابط الاتصال بين الإنكليز والمتطوعين اليهود الذين جاؤوا من بولندا ومن كل هذه الجهات، وأنا لم أكن أعرف أنه يهودي أبداً، فذهبت وحييته بالإنكليزية فرد بالإنكليزية، وبعدها قدّمت الأوراق، فقال: أنت تريد أن تتعلّم في الجامعة العبرية؟ فقلت: نعم، قال: هل تحب اليهود أم تكرههم؟ لم يعجبني السؤال، فقلت: والله، أنا لا أعرفهم بعدُ، لكنني سأذهب وأقيم ستة أشهر وبعدها اسألني عندما أرجع عن انطباعي، إن كانوا أناساً طيبين فأشهد لك شهادة طيبة، وإن كانوا أناساً أراذل فأقول لك الحقيقة. فضحك وقال: ستسرُّ جدّاً، ثم قال لي: أنا يهودي، وأنا مدرس في الجامعة العبرية في قسم التاريخ، وعندك هناك فلان الذي هو مسجل الكلية، اقصده وقل له: التقيت آبا إيبان، وهو يسلم عليك، ويقول لك: اعتنِ بأمري.

محمد رضا نصر الله: هل لنا من وقفة هنا لنستجلي اهتمام آبا إيبان المبكر بدارسة الفكر الأدبي المصري، فقد اهتمَّ بترجمة روايات توفيق الحكيم، كيوميات نائب في الأرياف وعودة الروح؟

حسن ظاظا: لليهود من هذه الناحية اهتمام كبير، فلم يصدر كتاب في الفكر العربي الحديث من تأليف مؤلف عربي إلَّا وتُرجم، وهم في هذا في منتهى الهمّة والنشاط، ومسألة الترجمة عندهم مسألة بسيطة جدّاً، فإذا احتاجوا لمترجم عن العربية سيجدون آلافاً يترجمون عن العربية، وإذا احتاجوا من يترجم عن الروسية فيجدون آلافاً من اليهود وهكذا.

وعوداً للحديث عن البعثة: فإن آبا إيبان كاد أن يوقع أنه لا مانع، لكنه قال لي: قبل أن أوقع ولأن هذه مسألة تعليم؛ اذهب وخذ موافقة المستشار الثقافي للسفارة البريطانية، فذهبت فرأيت شخصاً إنكليزيًّا بريطانيًّا أصيلاً وله لحية ويشبه القرصان كما في السينما، فدخلت وحييته باللغة الإنكليزية، فإذا به مستشرق، فرد عليَّ بالعربية الفصحى، فقدّمت الورق، قال: وأرسلك إليّ أبا إيبان؟ ووصفه بأوصاف منها كثير من أسماء الحيوانات وأشياء من هذا القبيل، قلت له: نعم، هو أرسلني، فتصنّعت البلاهة تقريباً، قال لي: احذر منه ومن الناس الذين تذهب إليهم، أنا أكلمك كما لو كنت ابني، وأنت شاب صغير وممكن يضحكون عليك بكافة الطرق، فخذ منهم كل ما تستطيع ولا تعطهم شيئاً، قلت له: ولماذا؟ وأنا كنت مثاليًّا في هذا الوقت، قال: لأن هؤلاء سيطردونكم من فلسطين بعد أن يطردونا منها، وسترى أن هذا سيحدث، وسيحدث أقرب ممّا نتصوّر، وحدث فعلاً. وأخيراً قال: إني أرجو لك النجاح وكذا وكذا، وكتب الموافقة، وأخذت قطاراً عسكريًّا بتصريح من آبا إيبان لعبور الحدود المصرية الفلسطينية.

محمد رضا نصر الله: كان هذا عام 1941 ميلادية؟

حسن ظاظا: كان في 1942، وكانت القوات الألمانية تحتل بعض الجزر في بحار اليونان في الأرخبيل اليوناني، منها كريت ورودس، وكانت -أيضاً- في هذا الوقت قد وصلت إلى العلمين في ضواحي الإسكندرية، فالقطار تعرّض لثلاث غارات جوية وهو يخترق صحراء سيناء من طائرات ألمانية ألقت عليه قذائف، لكن القذائف تقع يميناً ويساراً ولا تصيبه.

المهم وصلت إلى هناك ووجدت عناية كبيرة، وذهبت إلى المسجّل وقال عُد لاحقاً، ولما عدت قال لي: مدير الجامعة يريد أن يتعرف إليك، وكان للجامعة العبرية مديران، مدير سياسي ومدير أكاديمي.

محمد رضا نصر الله: متى أنشئت هذه الجامعة العبرية؟

حسن ظاظا: سنة 1924.

محمد رضا نصر الله: ما هي ظروف نشأتها؟

حسن ظاظا: ظروف نشأتها هي إنشاء الوكالة اليهودية في فلسطين بعد إعلان وعد بلفور وبعد احتلال بريطانيا لفلسطين على يد قوات من المتطوعين اليهود، وحتى المتطوعون المصريون فقد جمعوا من مصر بقيادة اللورد ألمبي، الذي كان هو قائد القوات البريطانية في مصر، وعبروا الحدود، وكان فيهم مجموعة من مشاهير الصهاينة، منهم جابوتينسكي الذي كان أستاذاً لمناحين بيجن، ومنهم ترومبلدور، وهو كان عقيداً عسكريًّا روسيًّا، له مواقع كثيرة جدّاً، وفقد أحد ذراعيه في معركة روسية، فكان العرب في فلسطين يسمّونه (أبو ذراع).

محمد رضا نصر الله: كيف وجدت الحياة الأكاديمية والوضعية المجتمعية هناك؟

حسن ظاظا: كان العصر الذهبي للجامعة العبرية في هذا الوقت، فالأسماء التي ما زلنا نسمع عنها الآن درّست في الجامعة العبرية بسبب أنهم فوجئوا بالنازية وبهتلر فكان أقرب مكان يهربون إليه هو تل أبيب، فالذهاب إلى أمريكا كان صعباً وإنكلترا كانت لا تقبل الهجرة إليها، وفي تل أبيب كانت الوكالة اليهودية التي ترحب بكل هؤلاء، فوصل هناك جوتهولد فايل وهو مستشرق كبير جدّاً وهو الذي قام بنشر (الإنصاف في مسائل الخلاف بين الكوفيين والبصريين)، وكان متبحّراً في الأدب التركي أيضاً، وقابلته هناك، وكان حينها كبيراً في السن، وكذلك جونتاين، وبانيت، وبراون، ماير، كل هؤلاء.

وكان المدير السياسي للجامعة البروفسور ماغنيس، وهذا كان مليونيراً أمريكيًّا كبيراً جدّاً، وتزوج ابنته هنري كسنجر، فنانسي كسنجر هي بنت البروفسور ماغنيس، وكانت تقال عنه أشياء في نظامنا لا نكاد نصدقها، مثلاً عندما يجد في سنة من السنين ميزانية الجامعة ناقصة مليونا دولار مثلاً فإنه يتبرع بها من جيبه الخاص، وكان لا يتقاضى راتباً عن إدارة الجامعة السياسية.

وقد سألته عن الإدارة السياسية فقال: أنا أنظم المؤتمرات الدولية التي نشترك فيها أو ندعو إليها، وأحصل مقابلها على معادلة لشهادات الجامعة عندنا إلى آخره.

محمد رضا نصر الله: كم قضيت من الوقت هناك؟

حسن ظاظا: قضيت عامين ونصف إلى أن أخذت الماجستير، وكان المفروض أن أرجع، لكن كانت جامعة الدول العربية تُنشأ في هذا الوقت، وكان الدكتور عبد الرزاق السنهوري هو وزير المعارف فقال: إن هذه البعثة تتعارض مع ميثاق جامعة الدول العربية؛ لأن الميثاق عُمل لمكافحة الصهيونية، وأنا وزير معارف وتأتيني بالماجستير وأعتمدها مُعادِلة فهذا يعني إقراراً رسميًّا مني بأن الكيان الصيهوني له جامعة معترف بها منا.

محمد رضا نصر الله: فماذا فعلت؟

حسن ظاظا: بقيت في مصر، وقال لي: ابقَ في مصر وسيحفظ حقك في بعثة بعد هذا، فبقيت أدرّس في جامعة الإسكندرية محاضرًا، وبعد ذلك سافرت إلى فرنسا.

محمد رضا نصر الله: نتوقف عند بعض تفاصيل رحلتك إلى فرنسا بناءً على اقتراح من الدكتور عبد الرزاق السنهوري وزير المعارف وقتذاك، الذي رفض أن يعترف بشهادة الماجستير التي حصلت عليها من جامعة القدس، في الوقت الذي عدت فيه إلى القاهرة كانت جامعة الدول العربية قد بدأت تؤسّس نفسها ودورها محاربة العدو الصهيوني والمحافظة على الأمن القومي العربي. دكتور حسن حينما ذهبت إلى باريس للحصول على درجة الدكتوراه كأنك تغسل ما قمت به من عمل أكاديمي في القدس حينما ذهبت دارساً لأصول الفكر والأدب العبري، نريد هنا أن تتحدث لنا بتفصيل عن تخصصك في دراسة الأدب والنحو العبري، وأيضاً دراستك للشخصية اليهودية من الناحية الفقهية والفكرية.

حسن ظاظا: في هذه الناحية أشعر أنني مدين إلى أستاذ آخر كديني لطه حسين ولكراوس ولهؤلاء الناس في مصر، وهو الأستاذ إدوارد دورم، وهو أستاذ فرنسي غزير التأليف جدًّا، كان يدرس العبرية القديمة في معهد الدراسات العليا في السوربون، فدخلت إلى محاضرته بعد أن سألت واستعلمت وعرفت أنه أستاذ الأساتذة، فدخلت عنده ووجدت مائدة مستطيلة وحولها حوالي عشرة إلى خمسة عشر طالب دراسات عليا، وهو جالس ويُقرئهم في التوراة ويترجمون وهو يشرح إلى غير ذلك، فظن أنني ضللت الطريق؛ لأنها أول مرة يراني فيها، فنادى عليَّ وقال لي: يا صديقنا، هذه محاضرة في الأدب العبري، قلت له: أدري، وأدري أن البروفسور دورم هو الذي يدرّسها، قال: نعم، اجلس، وسألني من أي بلد أتيت؟ فقلت له: طيب، خمّن أنت أولاً، وكانت مداعبة، قال: أنت مغربي؟ قلت: لا، قال:إيراني؟ قلت: لا، قال: عراقي؟ قلت: لا، قال:سوري؟ قلت: لا، قال: يا أخ حيّرتني، أنت من أين؟قلت له: أنا مصري، قال طيب، أهلك المصريون القدماء طردوا اليهود من مصر، وأنت أتيت تتعلّم لغتهم عندي، قلت له: لا بد، قال: وهو كذلك، قال لي: أنت يهودي؟ قلت: لا، قال لي: ولا أنا، فاطمأننت،قال: تعرف اللغة العبرية، قلت له: أعرفها جيداً، قال لي: جيداً، هذا نوع من الادّعاء العريض، طيب استعد للقراءة والترجمة، قلت له: القراءة لا بأس، أما بخصوص الترجمة فالمشكلة في معرفتي باللغة الفرنسية، قال لي: نرى، ولما جاء دوري قال لي:اقرأ. وأنا كنت وصلت في الجامعة العبرية أن أقرأ مثل هذه النصوص كما تُقرأ الجريدة اليومية، سواء النصوص الكلاسيكية أو الحديثة، الاثنين معاً. فقرأت فأبدى الرجل إعجاباً شديداً، فقال لي: قف، فتوقفت، وقال لي: نحن هنا نفك الخط وأنت تقرأ كأنك قطار سريع، اقرأ واحدة.. واحدة، فبدأت أقرأ،ومع كل فقرة يقول لي: ببطء.. ببطء، إلى أن بدأت أقرأ ببطء شديد، فنظر هو وقال لي: أنت تحضر المحاضرات هذه عندي؟ قلت له: نعم، فنظر إلى تلاميذه وقال: اسمعوا، من الآن أنصتوا إلى قراءة هذا الرجل الجيد، وقلّدوه في نطقه ولا تقلّدوني أنا.فأنا ذُهلت!

محمد رضا نصر الله: هذا الأداء بناء على كونك قد تشبّعت طريقة الأداء العبري عندما ذهبت إلى القدس.

حسن ظاظا: ثم قال لي: ترجم، قلت: هذه هي المشكلة، قال: ليس هذا مهمًّا، المهم أنك تعرف اللغة العبرية، وأنت فهمت ما قرأتَ؟ قلت: نعم، قال: إذن عبر عنه بالفرنسية حتى المكسرة، فقلته. وكان الموقف بين موسى وهارون وفرعون، وهذا هو سبب تعليقه السابق أن المصريين طردوا اليهود. وفي النص الذي قرأته: أن فرعون غضب تماماً فقال:اخرج من أمامي. بينما أنا استعملت كلمة عامية تعلّمتها في الشارع في فرنسا بهذا المعنى لكن في حالة الغضب، يقولون: انگلع، فقلتها فضحكالطلاب، فقال: والله، فرعون لم يقل له إلّا هذه الكلمة، وأخذ يدافع عني حتى في الغلط.

محمد رضا نصر الله: ذكرت أن اليهود قد طردوا من مصر عبر القصة التاريخية المعروفة، لنقف هنا عند قضية الأصالة التاريخية التي يحاول اليهود اليوم والمؤسسات الصهيونية أن تبحث لنفسها عن هذه الأصالة متشبثة بالأرض الفلسطينية، مع أن السبي البابلي قد أتى باليهود إلى فلسطين حينما كان بها الكنعانيون، هل من وقفة هنا للبحث عن الشعوب التي كانت تقطن فلسطين قبل أن تتوالى عليها الهجرات اليهودية؟

حسن ظاظا: الهجرات اليهودية بدأت منذ القِدَم، وكانت القبائل قد استقرت في أماكنها، بحيث إن أي قبيلة شاردة لن تجد لها مكان خصوصاً إذا كانت ضعيفة، واليهود كانوا ضعفاء، فهم حاولوا الاستقرار في العراق قديماً فلم يستطيعوا، لأن فيه حضاراتقديمة وكبيرة مثل حضارة السومريين والبابليين والآشوريين، فهاجر بعضهم إلى سوريا،فالآراميون المستقرون هناك الذين يسيطرون على خطوط التجارة البرية ويذهبون من خلالها من دمشق إلى تركيا في هذا الوقت على ظهور الإبل والبغال،فلم يطب لهم المقام أيضاً، أو لم يقبلهم المجتمع الآرامي، فجاءت إلى فلسطين حفنة صغيرة من الناس وهم يعقوب وأولاده أو الأحد عشر كوكباً التي نعرفها ووردت في القرآن الكريم، أو الأسباط الذين هم اثنا عشر إذا أضفنا إليهم يوسف، وبعد ذلك -أيضاً- ضايقهم الكنعانيون والفلسطينيون ورفضوهم لأسباب كثيرة، منها أنهم كانوا يُبدون المودّة ويضمرون التآمر، كما في قصة بنت يعقوب التي هي دينا، واعتداء ابن أمير شكيم التي هي نابلس حاليّاًعليها واغتصبها، فعقدوا صلحاً على أن يتزوّجها الولد وتصير مصاهرة بين الفلسطينيين وأبناء إسرائيل الذي هو يعقوب، فقال: نعم، لكن أولاده الذكور أوقعوا ببلدة شكيم وقتلوا كل رجالها وسبوا كل نسائها ونهبوا كل ممتلكاتها، وهذا موجود عندهم في التوراة، وليس هو شيء غريب. فبدأ العالم كله يتخوّف منهم منذ ذلك الوقت. ثم ذهبوا إلى مصر، وكان ذهابهم إلى مصر -أيضاً- عجيباً جدّاً، فيوسف في الغالب وصل إلى مصر والفراعنة الحاكمون في مصر كانوا من الهكسوس وهم ساميون، فأفسحوا المجال لبني إسرائيل. وتقول التوراة: إن يعقوب وأولاده وأحفاده وعبيده وكل الذاهبين إلى مصر كان لا يزيد عددهم على سبعين إنساناً جميعاً رجالاً ونساءً. كما تقول: إن عدد الخارجين مع موسى الذي كان خروجه بعد قرنين إلى ثلاثة قرون من الزمان كان ستمائة ألف، فمن أين لسبعين أن ينمو عددهم إلى هذا العدد الضخم؟! هذه نقاط كثيرة يسأل عنها كثيرون. ففرويد -مثلاً- يقول: إن موسى لم يكن ساميّاً ولا من بني إسرائيل، وإنه كان أميراً فرعونيًّا من قصر أخناتون، وإن أخناتون كان يقول بالتوحيد مثل إبراهيم وموسى، وبعد أن مات أخناتون ارتدَّت مصر إلى عبادة الأصنام وإلى الشرك مرة أخرى، وبدأ كهنة آمون ورع وإيزيس وأوزوريس يقتلون كهنة الإله الواحد الذين ظهروا على أيام أخناتون، فما كان أمامه خيار، إما أن يدافع عن عقيدته ويستشهد، وإما أن يرتدَّ مع المرتدين ويأمن على نفسه. قال: موسى لأنه كان حاكماً في شرق الدلتا، وشرق الدلتا هي المنطقة الحساسة التي تُفتح منها مصر؛ فالحيثيون دخلوا من هناك، وكذا الأشوريون والأتراك، وهذا يعني أن مصر ما كانت تُفتح لا من الجنوب ولا من الغرب، لكن من هذه المنطقة، فوضع موسى في هذه المنطقة كانت دلالته أنه موضع ثقة كبيرة جدّاً من قبل أخناتون.

محمد رضا نصر الله: ملاحظ أن اليهود قد عانوا كثيراً من الرومان، وكذلك من اليونانيين، وبعد ذلك تشرّدوا في الأرض، وقد كان للأرض العربية على امتدادها من اليمن إلى المغرب دور في احتضان هذه الجاليات والأقليات اليهودية، وبعد مجيء الإسلام كلنا يعلم بمعاملة النبي (ص) لهذه الجالية أو لهذه الأقليات اليهودية، فكانت صحيفة المدينة أول نص يكتب في اتفاق سلام وحقوق إنسان وإنصاف الأقليات، هل من سبيل للوقوف عند هذه النقطة، قضية تسامح العرب والمسلمين مع اليهود في الوقت الذي كانوا يتعرّضون فيه إلى مرِّ الأذى والمعاناة من الرومان واليونانيين؟

حسن ظاظا: العرب مع ظهور الإسلام كانوا في ظروف اقتصادية وسكانية لا تسمح لهم بشنّ حروب كبيرة، فكانوا يميلون إلى المسالمة، بينما كان الرومان -مثلاً- يخترقون بلاد العرب كلها بجيوشهم ليذهبوا ويحتلوا مناطق في الحبشة أو مناطق في اليمن، لكن بعد مرور الجيش لا يبقى واحد منهم في هذه المنطقة؛ لأنها منطقة غير جذابة ولا ذات أهمية استراتيجية، بل هي طريق مواصلات وطريق قوافل خصوصاً، فبعد هذا عندما بُعث الرسول (ص) كان يرحّب بالمسالمة حتى مع من لا يُؤتمن، فسالم النصارى في وقت من الأوقات، وسالم اليهود، وسالم الحنفاء؛ لأنه كان منهم قبل البعثة.

محمد رضا نصر الله: سالمهم، وأعطاهم -أيضاً- فرصة للعمل في مجتمع المدينة المنورة، فكثير من المسيحيين واليهود قد عملوا صيارفة وأطباء هناك.

حسن ظاظا: في الدولة الإسلامية كانوا مترجمين وصيارفة وأطباء ووزراء، وكل هذا أعطي لهم في صحيفة المدينة، وبقيت هذه الصحيفة محترمة في غير هذا الموقف. ففي الإسلام يُفرَّق بين الدول التي فُتحت عنوة والتي فتحت صُلحاً، فالتي فتحت صلحاً لو كان أهلها من أهل الكتاب فلهم دينهم ولغتهم وأمنهم ويدفعون الجزية، كأنها بدل الدفاع عنهم، لأنهم لا يمكن تجنيدهم، وهذا طبّق على مصر، وطبّق على جهات الحيرة التي فضّلت أن تبقى على نصرانيتها بعد هذا، وبقيت أجزاء كبيرة من قبيلة تغلب في سوريا التي منهم الأخطل بعد هذا بقوا على المسيحية، فهو أعطى الأمان لليهود أيضاً والحرية.

محمد رضا نصر الله: ولكن الملاحظ أنهم قابلوا هذا الأمان بنكث الوعد!

حسن ظاظا: بالتآمر مرة أخرى، ومحاولة قتل الرسول مرتين، مرة أُلقي عليه حجر الرحى من سطح يهودي وهو واقف في الطريق، ومرة أخرى عندما دُعي إلى وليمة وأطعمته اليهودية ذراع شاة مسمومة. فكل هذا لم يؤثّر على علاقات اليهود بالمسلمين فيما بعد، فمثلاً نجد سعديا سعيد بن يوسف الفيومي في بغداد في حوالي منتصف القرن الثالث الهجري يرأس الطائفة اليهودية في الدولة العباسية كلها.

محمد رضا نصر الله: ويخصص له مكان أو مكتب معيّن في ديوان الخليفة العباسي.

حسن ظاظا: نعم، وله مكتب آخر في بلدة سورا القريبة من بغداد، وله فيها حق التدريس والتأليف واستقبال التلاميذ والرسل والبريد من دون استئذان الخليفة.

محمد رضا نصر الله: وأيضاً كان الخليفة يحضر مناسبات وأعياد اليهودية ومواسمهم التي كانت تقام في بغداد.

حسن ظاظا: وأكثر من هذا، كان عنان بن داود مؤسس طائفة اليهود القرائين عندهم أثار موجة من السخط والغضب بين اليهود، فحبسه أبو جعفر المنصور، وقال: إنه يخل بالأمن العام، وفي الحبس وجد بين المحبوسين الإمام أبا حنيفة، وكان الإمام أبو حنيفة ذكيًّا جدّاً، فسأل اليهودي عنان بن داود: لماذا حبسك؟ قال له: حبسني لأن اليهود وشوا بي، وقالوا: إن هذا يبلبل الأذهان في الدين اليهودي، قال له: أقابلت الخليفة؟ قال: لا، إنما حبسوني إلى أن أقابله ويحكم فيَّ بما يراه، قال: عندما تقابله قل له: إنك صاحب مذهب جديد ولا علاقة لك بأولئك اليهود، فتنجو، فقال هذا ونجا، وبقيت طائفة القرائين موجودة إلى اليوم.

محمد رضا نصر الله: من هي طائفة القرائين؟ هل هي حركة حاولت أن تجدّد في طبيعة الدين اليهودي؟

حسن ظاظا: هي حاولت أن تنظّف الدين ممّا نسمّيه نحن بالإسرائيليات، والإسرائيليات مصدرها التلمود أكثر من أن يكون مصدرها التوراة. فعنان بن داود قال: ما أنزل على موسى وعلى بقية أنبياء بني إسرائيل هو هذا الكتاب الذي نقرؤه ونصلي به، فهذا الكتاب إذن هو الملزم لنا، أما التلمود فهو غير ملزم لنا، كما أنه مملوء بالخرافات وبالأساطير وبالأشياء غير المعقولة، ونحن نرفض أن يكون كتاباً للعبادة ولا مصدراً للتشريع من باب أولى. فثار اليهود التلموديون عليه، خصوصاً أنه أعلن هذا في أرض بابل، والتلمود البابلي أُلِّف في بابل، فكان وقع هذا أليماً جدّاً.

محمد رضا نصر الله: ذكرت الإسرائيليات، فهذه الكلمة مثيرة وتبعث الكثير من الدلالات في التصور الإسلامي، إذ ارتبطت بوجود بعض المحدّثين من اليهود الذين أسلموا ككعب الأحبار ووهب بن منبّه الذين كانوا يجلسون ويحدثون المسلمين أحاديث أسطورية بخلفية إسرائيلية، وبخليفة دينهم اليهودي الذي تحوّلوا عنه.

حسن ظاظا: الإسرائيليات أزعجت المسلمين منذ البداية، ولو رجعنا إلى تفسير الحافظ ابن كثير -مثلاً- نجد أنه يذكر في مقدمة تفسيره أنه تجنّب الإسرائيليات وإدخالها في تفسيره، وحاول أن يفسّر القرآن دون أن تنزلق فيه إسرائيليات، ومع ذلك انزلقت إسرائيليات في كتابه. وأكثر المؤرخين القدامى إذا أرَّخوا للأمم السابقة على ظهور الإسلام يأخذون هذا من الإسرائيليات جميعاً. وبهذا الشكل نجد أن الإسرائيليات صارت مرتعاً خصيباً جدّاً لأي إنسان، وأول المبتكرين والموسّعين والمعظمين للإسرائيليات هم اليهود أنفسهم.

محمد رضا نصر الله: الاسرائيليات ارتبطت أيضاً بقصص الأنبياء؟

حسن ظاظا: كثيرون جدّاً الذين كتبوا في قصص الأنبياء، وفيها إسرائيليات رهيبة جدّاً.

محمد رضا نصر الله: ما هو المحور الذي تدور حوله هذه الإسرائيليات؟

حسن ظاظا: محورها هو أفضلية بني إسرائيل على أمم العالم كله، وأنهم يُكتب لهم النصر في الأول، وإذا ضربت عليهم الذلة والمسكنة فهذا إلى أجل محدّد ثم ينتصرون في النهاية.

محمد رضا نصر الله: الثقافة الإسلامية تركت طوابعها على مجمل الحركات الفكرية التي كانت موجودة في الدولة الإسلامية، كالحركات الفكرية للأقليات الدينية الأخرى، وفي مقدمتها اليهودية. لو وقفنا -مثلاً- عند علَّامة اليهود وفيلسوفهم الضخم موسى بن ميمون، هذا الرجل تنقّل بين الأندلس والمغرب في دولة الموحدين، ثم بعد ذلك وصل إلى مصر وحاول الوصول إلى فلسطين، ابن ميمون هذا تأثّر بابن رشد الذي فتح له آفاقاً واسعة على الفكر اليوناني، هل موسى بن ميمون هو المؤسس الفعلي للفلسفة اليهودية؟

حسن ظاظا: هو مؤسس من المؤسسين وليس هو كل المؤسسين، ولا إمام من المؤسسين، فهناك حسداي بن شبروط، وابن غياث، وبحياي بن فاقودة، ومروان بن جناح القرطبي، ودونش بن لبرط، وإبراهيم بن عزرا، وموسى بن عزرا، وداود قمحي، كل هؤلاء كانوا موجودين وهم علماء.

محمد رضا نصر الله: ولكن دائماً ما يذهب الباحثون إلى اعتبار ابن ميمون هذا عَلَامة مميزة في تاريخ الفكر اليهودي؟

حسن ظاظا: هو علامة مميزة إلى جانب سعديا الفيومي، فالأول من أقصى المشرق من بغداد، والثاني من قرطبة، فهذان الاثنان اشتُهرا بين المسلمين لسبب، وهو أن كتاب كل واحد منهما في العقائد اليهودية كان مكتوباً بالعربية، وبعربية جميلة جدّاً، كتاب سعديا الفيومي سمّاه كتاب (الأمانات والاعتقادات)، وهو موجود ومطبوع، وكتاب موسى بن ميمون سمّاه (دلالة الحائرين).

محمد رضا نصر الله: نلاحظ هنا أن اليهود لم يكتبوا بلغة غير لغتهم سوى العربية، أي إنهم لم يكتبوا بلغات أخرى غير لغتهم، هل هذا -إذا سلَّمنا به- كأنه مؤثر أساسي في تكوين الثقافة اليهودية التي أُحييت تقريباً مع مجيء الإسلام؟

حسن ظاظا: هذا كلام يصح جدّاً في ثقافة اليهود السفارد إما اليهود الأشكناز فلا. والسفارد هم الشرقيون، وأرضهم هي إسبانيا، وسمي اليهود المتحولون من إسبانيا (السفارد) جميعاً، وهؤلاء كانوا متأثرين بالثقافة الإسلامية تأثراً عميقاً جدّاً، وربما عرفوا عن الكندي وابن سينا أكثر ممّا يعرف المسلمون، وكانوا يتهافتون على هذا بشكل جيد. وقد ثار اليهود على سعديا الفيومي بسبب كتابه (الأمانات والاعتقادات) لأنه كان يقرّب العقائد اليهودية جدّاً من العقائد الإسلامية، فقالوا: هذا باع اليهود لخليفة المسلمين.

محمد رضا نصر الله: دكتور حسن، لو أردنا أن نتمثّل جملة هذه المحرمات، وهذه التصورات الدينية اليهودية في وسط المجتمعات اليهودية التي تعيش في العالم العربي، هل هناك من يتمسّكون بهذه التعليمات؟

حسن ظاظا: يوجد من يتمسّكون بهذه التعليمات جدّاً، وكان هناك -قبل هجرة اليهود من مصر في العصر الحديث- صاحب مطعم في الإسكندرية يهودي اسمه بنيامين، وكان صديقي، كان لا يطبخ في مطعمه شيئاً إلَّا ما تبيحه له الشريعة الإسرائيلية، وكنت أذهب إلى مطعمه وأنا مطمئن إلى أنه لا يصنع الأشياء التي لا أحبها، فكانت اللحوم -مثلاً- تطبخ ويضاف إليها اللبن الرائب، وهذا حرام عندهم، وأنا لا أحب طعمه، فأنا مطمئن أنه لن يقدّمه، وكذا الخنزير من باب أولى، وكان يصنع النقانق -والتي تُسمّى عندنا السجق- بنفسه، ويقول: إن الجزارين أحياناً يضيفون أي لحم بعضه مع بعض ويفرمونه وكذا، فكان موسوساً في هذا الموضوع وعنده هاجس بهذا الخصوص أنه لا بد أن يتجنبه.

محمد رضا نصر الله: لنمر على وضعية اليهود العرب، فهناك أعداد لا يُستهان بها قد رحلت إلى إسرائيل بعد عام النكبة، وهؤلاء اليهود العرب قد تشرّبوا الثقافة العربية، وهناك من كتب باللغة العربية شعراً جميلاً، وأعمالاً أدبية أخرى، إلَّا أن الوكالة اليهودية قبل ذاك خطّطت لإزعاج هذه الأقليات اليهودية فقامت بترحيلها من دول عربية كالمغرب واليمن وليبيا والعراق.

حسن ظاظا: وتفنّنت في نشر الأكاذيب الإرهابية لتخويف هؤلاء اليهود، وأرسلت من عملائها من يسهّل تهريب أموالهم.

محمد رضا نصر الله: ومن كان يقوم -وقتها- بالتفجيرات في بعض المحال والأسواق ودور السينما يفتعلون هذه المواقف لتشجيع اليهود والعرب للذهاب إلى إسرائيل.

حسن ظاظا: يفتعلون هذا للتهديد والإرهاب، فكل ذلك اقترب -أيضاً- بسحب جميع اليهود القرائين عن طريق الإشاعات الكاذبة من تركيا، وكان عددهم كبيراً في تركيا، وسحبوهم من جنوب روسيا ومن شبه جزيرة القرم، وسحبوا جزءاً كبيراً جدّاً منهم من إيران، وسحبوهم جميعاً من مصر، فعلوا كل هذا ونحن في غفلة عمّا يحوكه الصهاينة. إن الصهيوني يمكن أن يجد من الصواب أن يضحّي ببضعة آلاف من اليهود بأن يقتلوا أو تصادر أموالهم أو يمارس عليهم إرهاب بحيث تكسب الصيهونية في النهاية. وما الصهيونية إلّا حزب من الأحزاب الضعيفة في إسرائيل، ودليل ذلك أنها كانت ترسم لمجيء كل يهود العالم إلى فلسطين فلم يجئ إلَّا خمس يهود العالم حتى الآن، وهذا الخمس ربما أربعة أخماسه يحلمون بترك إسرائيل إذا وجدوا إلى ذلك سبيلاً. وفي وقت من الأوقات سألت واحداً منهم كنت استجوبه وهو أسير من أسراء حرب أكتوبر، قلت له: لماذا لم يستجوبوك في الجيش لما وقعت أسيراً عندهم؟ قال: لا أعرف إلَّا اللغة العبرية، قلت له: هذا غريب، فأنتم أصبحتم سجناء اللغة العبرية، فقال لي: والله، أنا أفكر الآن أنهم لم يعلمونا استعمال لغة أجنبية حتى لا نترك إسرائيل ونرحل. فهذا شيء غريب! لأن الشهرة أن اليهودي يتكلم عدة لغات. هناك مخطط صهيوني خبيث جدّاً، ويعمل ضد صالح اليهود، مع أسفي على هؤلاء اليهود؛ لأنني لست عدوّاً لليهود. نعم، أنا عدو للصهيونية التي هي -في نظري- عدوة اليهود هي نفسها، والمساومات والمماطلات التي يعملونها في مسألة الحكم الذاتي في فلسطين، وكل يوم يفتعلون عملاً إرهابياً أو قتل فلسطيني، كل هذا نوع من الأشياء المحسوبة التي تهدف إلى نتائج خطيرة جدّاً.

محمد رضا نصر الله: ترسم صورة نمطية عن الشخصية اليهودية في المجتمعات الغربية تحديداً، أنموذجاً مسرحية شكسبير (تاجر البندقية) وكيف صوّر ذلك اليهودي الذي يقايض.

حسن ظاظا: (تاجر البندقية) هي من وحي يهودي حقيقي كان في البندقية قبل شكسبير بجيل واحد، وكان قد أحسَّ بأن السلطان العثماني في أزمة مالية فحمل كمية كبيرة من المال وذهب إليه وقدمه له، وقال له: هذه هدية مني. فولَّاه رئاسة أسطول من أساطيل الدولة العثمانية، وأعطاه لقب أميرال، وبهذا الشكل أثار حفيظة كل الأوربيين الذين كانوا يحقدون على السلطان العثماني، فجاء تاجر البندقية وزاد ذلك الحقد. فهم يقولون: إنه جمع أمواله كلها من الربا ومن الناس في البندقية وحملها إلى عدو النصارى.

محمد رضا نصر الله: في الوقت الذي كان فيه اليهود يُعاملون بحسن نية في الوسط العربي وبتسامح إسلامي كبير، نجد أن المجتمعات الأوربية قد تعاملت مع اليهودي تعاملاً عنصريّاً، ورُسمت -أيضاً- صورة نمطية لشخصية اليهودي بأنه ذلك الإنسان البشع، ومسرحية شكسبير وغيره توضح هذا التصوّر، هل من وقفة هنا للتمييز بين التعاملين: التعامل العربي مع اليهود والتعامل الأوربي معهم، فهل دعم دول أوروبا لليهود في إسرائيل هو تكفير عن الخطايا التي ارتكبوها ضد اليهود من قبل؟

حسن ظاظا: مجيء اليهود إلى أوربا حدث قبل ظهور الإسلام بأكثر من خمسمائة سنة، وذلك في التشريد الروماني، فهربوا من فلسطين ودخلوا أراضي ومستعمرات الإمبراطورية الرومانية في أوربا، وكانت أوربا في حالة جهل وانقسام وقبلية وغير ذلك، وكانت تكره الأجنبي، فما بال الأجنبي الذي يتكلّم اللغة العبرية، ويكتب بأبجدية أخرى، ويلبس ملابس مخصوصة، وله صلوات مخصوصة، ولا يعترف بالمسيح، فكل هذا ظهر في صورة الاضطهاد لليهود والحقد عليهم، فلما علموا أن اليهود هم الذين صلبوا المسيح زادت العداوة حدّةً، فهذا يعني أن هذه العملية قديمة جدّاً، وما تُبديه أوربا أو الغرب عموماً من التسامح مع اليهود هو مثلما تفضّلت به من كونه شعوراً بالخطيئة، والتكفير عنها عن طريق محاباة اليهود ولو كان هذا على حساب المسلمين.

محمد رضا نصر الله: ذهبت إلى فرنسا لدراسة النحو العبري، ولكنك تزوّجت من فرنسية؟

حسن ظاظا: وهي فرنسية كاثوليكية وليست يهودية، ولم يكن وراء هذا الزواج قصة غرامية، ولكن كانت وراءه قصة صداقة مع أخيها الأكبر الذي كان من كبار علماء الفيزياء وعميداً لكلية العلوم بجامعة نانسي، وألف بحثاً اسمه (ميكانيكا الإشاعات الكونية)، تُرجم إلى كل لغات البلدان التي لها أقمار صناعية، لتصحيح مسار الأقمار الصناعية.

محمد رضا نصر الله: وقد أنجبت منها مالكاً وزينب.

حسن ظاظا: نعم.



error: المحتوي محمي