قبل فترة من الزمن، التقيت شخصاً أصغر مني سناً ومن الوهلة الأولى بدا لي شخصاً غريباً. بادرني بالسلام مرحباً: أهلاً بالجار! أنا فلان بن فلان فأجبته: وهل ننسى الأجاويد والأخيار من الجيران ولله الحمد كل الفريق -الجيران- على شاكلتكم طيبون ومحترمون ونفتخر بجيرتهم. فأكملت حديثي مازحاً ما شاء لله! الأيام مرت بسرعة وكأنه قبل أسبوع كنت تجر في الفريق كرتوناً فاضياً حافي القدمين وها أنت اليوم شاب وسيم، تجر عربة تركبها بنت جميلة كأنها ملكة.
في طفولتها أصرت على والديها شراء لاب كوت أبيض لتلعب دور الدكتورة وسماعة طبيب تتدلى على عنقها من محلات أبو خمسة ريال. بعدها أصبح كل من في البيت يدعي المرض لتكشف عليه وتصف له الدواء المناسب كل حسب علته. ها هي اليوم وقد استبدلت ذلك اللاب كوت الذي كان مقاسه يكبرها بعشرات المرات بآخر حقيقي حصلت عليه نتيجة اجتهادها وتعبها وسعيها لتحقيق حلمها.
وذلك الفتى، من كان يقف وسط حلقة من أولاد الفريق حاملاً في يده “عسو” ليمثل دور المدرس قد أصبح اليوم أستاذاً لكنه تخلى عن عصاه لأنه أيقن أن هنالك أساليب أخرى ومجدية أكثر من الضرب، للتعامل بها مع المقصرين وحثهم على الالتزام بالقوانين والاجتهاد في عمل فروضهم المنزلية.
وهنالك من سعى واجتهد ولم يكتب له التوفيق في تحقيق طموحه ولكن موزّع الأرزاق سبحانه وتعالى رزقه ما هو خير له.
كانوا أطفالاً يقفون خلف الباب لحظة وصول الوالدين من أعمالهما لطبع قبلة على جبين الأب وأخرى على يد الأم. كانوا شللاً مجتمعين يذاكرون دروسهم ويساعدون بعضهم البعض ويحملون في قلوبهم النقية حب الخير والتوفيق لبعضهم البعض واليوم ديوانية الثانوية مظلمة حيث كل ذهب في طريق مختلف سعياً خلف تحقيق حلمه وعلى أمل اللقاء مجدداً بعد أن يحصل كل فرد من الشلة على شهادة جامعية في التخصص الذي اختاره. الآمال معقودة على هذا الجيل بأن يكونوا شباباً صالحاً ونافعاً مدعاة للفخر لأسرهم ومجتمعهم.
دور الوالدين لا يقتصر فقط على الدعاء وتوفير المادة بل يتعداه إلى تذليل العقبات قدر المستطاع وزرع الحماس في نفوس الأولاد وتشجيعهم المستمر وتوفير البيئة المنزلية المناسبة التي تمكّنهم من مراجعة دروسهم وعمل فروضهم المدرسية على أكمل وجه وتقديم المساعدة العلمية إن أمكن فيما يتعلق باختصاصهم.
كما لا ينبغي تغافل الجوانب الأخرى فهي لا تقل أهمية عن المواد الدراسية مثل التمسك بالمبادئ والقيم والاعتماد على النفس وتحمل المسؤولية والتعامل مع المشاكل واتخاذ القرارات المناسبة وإدارة الإنفاق وتكوين علاقات مع الأشخاص الصالحين واحترام الآخرين بالرغم من الاختلافات الفكرية والانخراط في الأعمال الاجتماعية والتطوعية والابتعاد عن النقاشات غير المجدية سواء في الفصول الدراسية أو خارجها والابتعاد عن الشبهات والتلوث الفكري والممارسات غير الأخلاقية والتي تتعارض مع الحدود التي أرساها الشارع المقدس.
تهيئة الأبناء النفسية والمهارية للمرحلة القادمة أمر في غاية الأهمية. فالعيال كبرت وينتظرها الكثير من التحديات في معترك الحياة وتحتاج للدعم والمتابعة تلافياً للوقوع في المحظور. حفظ الله أبناءنا وبناتنا أينما حلّوا وبارك لهم خطواتهم وآنس غربتهم ووفقهم في دروسهم ونفع البلاد بعلمهم وسخّر لهم الأخيار من عباده وأبعد الأشرار عن طريقهم.