«خرطي»

حينما قرأتُ الكثير من الكتب التي تمس الأديان والعقائد وأنا ابن العشرين من عمري، تراكمت في ذهني حينها مجموعة غير قليلة من الإشكالات الدينية، ولأن المراهق بطبعه ميال لفرد عضلاته الثقافية والفكرية على الآخرين، فإنني من هذا الباب توجهت لعلماء دين يتداول الناس أن تحصيلهم العلمي جيد، وحينما جلستُ بإزائهم مستعدًا لإحراجهم بأسئلتي الذكية التي بذلت الكثير من الجهد في تحضيرها ودراسة احتمالات الردود عليها؛ لأبدو مستعدًا لإفحام هذا الشخص الذي يسميه المجتمع عالمًا، وإظهاره أمام مريديه بالجاهل الصرف، تبين لي أن أسئلتي (خرطي)، هكذا كانت الإجابات مقنعة لشخص لم يأت لهذا العالم إلا ليفرد عضلاته ويثبت ثقافته، ولأن المراهق بطبعه عنيد، فقد أعدتُ الكرة مرة ومرتين وألفًا، وفي كل مرة يزداد شعوري بالخجل من نفسي ومن هذا الشعور المتكبر الذي أعيشه، حينها أدركت أن سبيل الاستفهام أفضل من سبيل الندية التي كنت أعيشها مع المتخصص الديني. هذا الإدراك كان في بداية العشرينات من عمري، في حين يؤسفني جدًا أن أجد متثيقف في الستين والسبعين من عمره لم يزل حتى مع تقدم العمر يتحدث باسلوب المراهقين (أنا أقول) لا بأسلوب الاستفهام ثم يطرح إشكالات أظن أن من المديح لها تمامًا أن أصفها بـ(الخرطي).

في تصوري أن الانسان ينبغي أن يكون حذرًا في طرح آرائه الناقدة لأمور تخصصية، يعني هذا الحذر أن يبذل وسعه في القراءة والبحث والسؤال عما رأى أنها أمور غير منطقية أو متناقضة، ذلك أن التفكير الذي يعني استخدام المعلومات لكشف المجهولات قد لا يكون قادرًا عليه لا لضعف في قواه العقلية، بل لعدم وجود المعلومة الصحيحة التي تصلح لتعويضها في المعادلة الفكرية لكشف المجهولات، الشيطان المتمثل أحيانًا بأشخاص يحسنون لبس الشماغ المنشى أو السوت بشكل جيد أو ربما لا يحسنون الاثنين؛ يصفقون لهذا المراهق ويصفون إشكالاته بالأعاجيب الفكرية التي لا يمكن أن يتفرد بها إلا العدد القليل من أذكياء التاريخ، هكذا إذن، تتفاقم النشوة لديه ويمتلئ القلب بالسعادة والحبور ويصاب العقل بسكرة، تجعله يرى في نفسه أنه أوحد الناس طرًا في الذكاء، حينها يبدأ هذا الشخص في الشعور أنه نبي جهله قومه، فيبدأ في نشر رسالته في المجتمع وكلما استسخف الناس حديثه ورفضوه ازداد يقينه أنه المصلح الذي اعتاد الجهلاء والببغاوات رفضه والوقوف في وجهه وإيذائه، المجدد الذي اعتاد الجهلاء عناده، العبقري الذي لا يفهم البسطاء كنه معارفه، في حين أن كلامه وأفكاره التي يطرحها ويقدمها للمجتمع ما هي إلا خرطي في خرطي.

من المهم للإنسان أن يحسن التمييز بين الناصح المحب والمخادع الكاذب، حينما يجد شخص أن مديحًا قدم إليه من شخص غير متخصص في رأي طرحه، فليعلم أن مديح الكهربائي لمتحدث في الفلك جهل، ومديح المزارع لمتحدث في الفيزياء جهل، إذ إن شخصًا لا يملك معايير التقييم ويقدم ويوزع الثناء على الآخرين هو شخص لا يلتفت إليه، فلو سُئل هكذا شخص عن الدليل على صحة ما يقوله فلان لما كان له جواب إلا مزيدًا من الترهات التي تكشف جهله، إذن، فحذاري حذاري من خدع المداحين، حذاري حذاري من أن يمنحك ثناء الجاهل يقينًا بعلمك وثقافتك، وحينما يطربك هذا الثناء وتعتز به فإنك بالتأكيد وقعت في الفخ، ويومًا بعد يوم سيتقدم بك العمر لتتحول لشخص معطل الأُذن لا يحسن إلا تسفيه آراء الآخرين، وشتم عقائدهم يقينًا منه أنه وحده العبقري والناس جميعًا جهلة وأغبياء ولا يحسنون التفكير.



error: المحتوي محمي