موت الرموز

ما معنى أن يكون للمرء رمزٌ خاص به يعود إليه، ويستعين به؟ ألا يعني ذلك عُثوره على هُويته التي ميَّزتهُ عن بقية البشر، فإذا فقد رموزه، أو ابتعد عنها، لأيِّ سبب من الأسباب؛ عانى أشدَّ المعاناة، من أجل العودة إليها، والتمسُّك بها، حتى وإن خالفت العقل، وخرجت عن المنطق؛ إذ مع الرمز يختفي المنطق، وتزولُ سلطة العقل، وهذا ما يمكن ملاحظته في الكثير من الديانات، ولدى كثيرٍ من الشعوب.
لكن للرموز نهاية يصلون إليها؛ إما بسبب وقوعهم تحت طائلة العقل، وتطور الحياة، كما هم آلهة اليونان القديمة، وآلهة مصر الفرعونية، التي لم يبقَ منها سوى ذكرياتٍ عابرة، تمرُّ على الذاكرة كومضة، دون أن يُكلِّف الإنسانُ نفسه عناء الاهتمام بها، والبحث عن جذورها، وإمَّا بسبب وقوعهم تحت طائلة التغيير القسري؛ كما هم آلهة العرب قديمًا، التي أحاطت بالكعبة، واستحوذت على المشاعر، فلما جاء الإسلام؛ حطَّمهم وأزال ذكرهم.

لكل رمز علامات وطقوس تصحبه، فحتى وإن زالت الرموز، وانتهى زمنها؛ ستظل العلامات، وتستمر بين الناس، ربما يتبدَّل اسمُها، وتتغير نسبتها، لكنها تستمرُ ولا تزول، إذ تبحث لها عن حِيَل للبقاء؛ لهذا يصعبُ الإمساك بها، فتظل طليقةً في حياة الناس، تعيش معهم، وتسكن في ذاكرتهم؛ لأنها لا تنتمي إلى عالم الوعي، بل إلى عالم اللا وعي.

بين الوعي واللا وعي فرقٌ شاسع، فالوعي طريق العقل لاختبار الأشياء واختيارها، بينما اللا وعي طريق الإيمان بالشيء دون اختباره واختياره؛ حيث الثقافة السائدة تدفع المرء إلى الفعل، دون إتاحة الفرصة أمامه للاعتراض والمخالفة، بل من يتجرأ على المخالفة عقابه قاسٍ، وقد يصل إلى الإقصاء من المجتمع، أو حتى القتل دفاعًا عن العقيدة التي يؤمن بها.

آلهة العرب قبل الإسلام، هي رموز حياتهم، وطريقة معاشهم، يُعاد إليها في كل أمر، وحينما يحتاجون المعونة، وإنزال الأمطار، أو طلب المال والأبناء، أو زيادة المحاصيل وإنتاج الماشية، يقومون بالتضرع والتوسل بها، وكذلك لدى آلهة مصر الفرعونية؛ التي ارتبطت بنهر النيل؛ مصدر حياتهم، وسبب معاشهم، الذي إن فاض أغرقهم، وإن جف أجاعهم، لذلك خصصوا له في العام احتفالًا؛ أسموه “شمَّ النسيم”، يتضرعون فيه كي يأتي موسم الزراعة بالحصاد الوفير، والنماء الغزير، وقد ارتبطت احتفالاتهم بحضور رموزهم من الآلهة، فلكي يقام الاحتفال، ينبغي أن يحضر الفرعون، فلما زالت مملكة الفراعنة، وتبدَّل دين المصريين إلى المسيحية، ثم الإسلام، استمرَّ العيد لديهم، مع تبدُّل اسمه وشكله.

ما حصل في مصر من زوال الرموز الفرعونية وبقاء العلامات المرتبطة بها، إنما هو قانون بشري، يصدق على جميع رموز الشعوب والأمم، فلدى الفرس عيد مشابه لشم النسيم؛ يُطلقون عليه “النيروز” أو النوروز، مرتبط بآلهتهم القديمة قبل الإسلام، استمر مع إسلامهم، وتبدُّل ديانتهم، ولدى اليونان طقوس خاصة يقومون بها لإرضاء آلهتهم سريعة الغضب، فإله البحر “بوسايدون” يتم التضحية إليه بإحدى العذراوات الجميلات، حيث تُلقى من أعلى جرف بحري، وقد استمر هذا السلوك إلى اليوم، مع استبدال الأضحية بأخرى غير بشرية.

العلامات المصاحبة للرموز لا تموت بموت أصحابها، إذ تبقى في لا وعي الناس وذاكرتهم العميقة، وقد يتم استبدالها بأشكالٍ وأسماء أخرى، لكن أصلها يظلُّ ثابتًا، لا يمكن تغييره، وهو ما يُشاهد اليوم في عديد من العادات والتقاليد، فالعرب في جاهليتهم إذا رحل لهم راحل في سفر أو غزو، أخذوا من لباسه خيطًا يُربط في شجرة قرب خيمته؛ طلبًا لعودته سالمًا، واليوم نجد آثارًا لهذه العلامة في أشكال وأسماء مختلفة، لعل منها ما يحدث حين يسافر أحدٌ إلى الحج، فتُصنع له “دوخلة”؛ تُلقى في الماء؛ طلبًا لعودته سالمًا.

يشبه الدوخلة ما يحصل من احتفالات رمي الطماطم، أو يوم الثيران، أو الاحتفال برأس السنة الميلادية؛ حيث جميعها عادات وسلوكياتٌ اجتماعية دالة على ارتباطها بزمن موغل في القدم، عاشت فيه رموز من الآلهة، ثم توَّلت بفعل تغيُّر الزمان، واختلاف طريقة عيش الناس، إلى أشكالٍ وأسماء أخرى.

العلامات لا تموت، حتى إن ماتت الرموز المصاحبة لها، وما يتم إحداثه من تغيير في سلوكيات الناس وطريقة عيشهم، لا يمكن العودة عنه بسهولة، إذ كلما طال الزمن؛ تعمَّق الأثر، واستقرَّ في لا وعي الجماعة، ليترسَّخ في تقاليدها، وأعرافها، إلى أن يغدو أمرًا لازمًا لاستمرار تماسكها، وعدم تفكُّكها؛ لدلالته على هُويتها، التي تميزها عن غيرها.



error: المحتوي محمي